‘ما وراء التلال’ تراجيديا عاطفية ومشاكل رومانية موروثة من الماضي الشيوعي

حميد عقبي
المخرج الروماني كريستيان مونجيو لا يسرف في الشرح، ويميل إلى التقشف والتكثيف مع وجود نوع من الغضب البارد، ويستخدم كاميرته كمشرط لتصور هذا الفضاء المعتم حيث تفوح روائح القهر والبؤس والتسلط.
“كرستيان مونجيو” صاحب تجربة سينمائية ساحرة وسبق حصوله على السعفة الذهبية عن فيلمه الشهير “4 أشهر، 3 أسابيع ويومان” وفيلمه الأخير “باكالوريا” حاصل على جائزة أفضل إخراج في الدورة 69 لمهرجان كان السينمائي الأخير، وكل فيلم يستحق أن نتوقف معه ولكننا سنخصص هذه الوقفة مع فيلم “ما وراء التلال” 2012 ونتمنى أن نعطي بعض الومضات ونناقش بعض العناصر المهمة لفهم هذا السينمائي الرائع.
الفيلم تدور أغلب مشاهده في في دير أرثودوكسي معزول خلف التلال حيث يسكن فيه راهب رجل دين يسمونه الأب وعدد من الراهبات، الحياة قاسية في هذا الدير الذي يشكو من قلة الموارد المالية ولذلك الكل يعمل بنشاط أعمالا دنيوية مرهقة في ظروف غير عادية فلا توجد كهرباء ولا تدفئة ولا وسائل ترفيه، كما أن هناك صلوات كثيرة وطقوس وواجبات دينية مرهقة ولكن الهدف تنقية الروح والتقرب من ملكوت الرب وهزيمة الشيطان بحسب وجهة نظر القس.
يبدأ الفيلم مع فويتشينا وهي شابة مترهبنة ومن سكان الدير وهنا تستقبل صديقتها آلينا التي تربت معها في دار للأيتام ثم سافرت للعمل في ألمانيا وتعود لزيارة صديقتها وحبيبتها فويتشينا ولديها رغبة أن تأخذها للعيش معها في ألمانيا، الفتاة المتدينة تصدم صديقتها أنها تحب الله حبا كبيرا وتفضله على كل شيء وأن قلبها مشغول بحب الخالق ولكنها تحب صديقتها بطريقة أخرى.
وهكذا منذ الوهلة الأولى تشعر آلينا بالغيرة من الرب وكذلك الراهب حيث تشعر أنه يسيطر على حبيبتها ونجح في محو حبهما، تحاول هذه العاشقة الدفاع واسترجاع حبيبتها إلى حضنها ومن أجل ذلك سندخل في نقاشات مطولة حول الدين ومعنى الإيمان وأحاديث كثيرة عن الشيطان ولكن موضوع الحب سيظل من الأساسيات المهمة.
آلينا مستعدة لأي تضحية من أجل أن تعود إليها صديقتها جسدا وقلبا وروحا ورغم أنها ليست مقتعة بالدين ولا الراهب الذي يقال إنه يتحدث مع ملاك وقريب من الملكوت الرباني، هي لا تصدق ولا تحب كل هذا، ولكن بعد رفض الأب السماح لصديقاتها بالسفر معها وتهديدها أن خروجها من هذا الدير يعني السير بخطوات في طريق الشيطان، آلينا لا تستطيع العيش من دون صديقتها وتريد تحريرها والذهاب بعيدا إلى ألمانيا أو في أي مكان آخر، في أي مكان، ولكن معا.
فويتشينا لم تعد قادرة منح صديقتها تلك المداعبات وتتهرب كون الرب في قلبها وليس امرأة أخرى ولا رجل، هنا العاطفة ضد العاطفة، تنفجر آلينا تصاب بصدمة نفسية وعصبية، تخضع للعلاج ثم تعود إلى الدير وتعلن أنها ستتخلى عن السفر وتترهبن.
كريستيان مونجيو يصور بالفعل عناد امرأة شابة لإنقاذ حبيبتها، لكن سوء الحظ أو الشر يكون العائق ويتحول هذا الجهد لمواجهة خطرة وتكون النتائج كارثية.
آلينا تحاول وتيأس من مخاطبة عقل وعاطفة صديقتها المخدرة بالدين وخرافات الكاهن والذي يشك في هذه الزيارة ويبدو قاسيا وينظر بسوداوية إلى العالم خارج هذا الدير، بعد رجوع آلينا من المستشفى وقرارها بالترهبن، هنا تكتشف قسوة هذه التعاليم ولا يبدو الكاهن مقتنعا بها، تتطور المنعطفات مع ثورة آلينا ضد الكاهن الأب وتشكيكها في المقدسات ويكون رد الفعل عنيفا حيث يتم ربطها بالحبال وتكميم فمها وحبسها وتجويعها بدعو أنها ممسوسة من الشيطان وتستمر هذه العذابات وتؤدي لموتها.
يصور لنا الفيلم هذا الكاهن صاحب السلطات المطلقة في هذا الدير وهو يأمر رعاياه بكل ما يجب القيام به ومجرد التفكير أو مناقشته يعتبر كفرا، ساكنات هذا الدير يعشن في عزلة وجهل، ونرى حالة من الشك والرفض يكبر لدى فويتشينا مع كل يوم تزداد عذابات صديقتها وبعد موت الصديقة يأتي اليقين بزيف هذا الواقع وقبحه ولذلك تخلع فويتشينا اللباس الديني، وتشهد خلال تحقيق الشرطة ضد الكاهن سقوط قداساته وتكشفت لديها الحقائق متأخرة بعد فقدانها الحب والحبيبة.
تظل الكاميرا التي هي بمثابة المشرط الذي يختار لنا ما يريده من هذا الفضاء البارد والمعتم، هذا العالم حيث يفوح البؤس والتسلط، المخرج لا يسرف في الشرح، ويميل إلى التقشف والتكثيف مع وجود نوع من الغضب البارد، نواجه نفاق السلطة (الدينية والسياسية والاجتماعية) الراهبات غارقات في الخرافات ويبدو أن هذه حالة عامة في جميع أنحاء رومانيا، الجميع يقتنع أن الفتاة ممسوسة وبالاتفاق مع أخ شبه أحمق يمارس الكاهن طقوسه ويقرأ الصلوات بهدف طرد الشيطان وقبول هذه الطقوس واقتناع الجميع بها يعني أن المجتمع مغيب تماما ويعيش الخرافة ويستمتع بها، رغم أن الجميع يصلي ويتعبد ويحصل على بركات الكاهن إلا أن تعابير الوجوه تعكس حالة من الخوف وليس السعادة، يستخدم الكاهن الخوف ويزرعه في نفوس رعيته ومع الخوف تزيد قوته وهيمنته وقداساته.
صور لنا المخرج ببراعة العلاقة بين المرأتين وكان الأداء التمثيلي للممثلتين صادقا ومدهشا ويستحق جائزة التمثيل في مهرجان كان 2012، عرض لنا الفيلم معركة شرسة بين الحب وسلطة دينية لا تعترف بمثل هذه المشاعر وكل تعاليمها تنصب في تعليم الفرد قهر نفسه والتخلي عن الذات لصالح الكهنوت الديني الذي يُحرم مناقشته أو معارضته ورغم فظاعة ما حدث، فالكاهن لم يحزن أو يعترف بخطئه ويعتبر موتها قدرا وليس سوء تقدير منه كونه يرى نفسه منزها وقديسا.
“ما وراء التلال”: لكريستيان مونجيو ليس فيلما عن خرافة طرد المس الشيطاني والأرواح الشريرة في رومانيا، هو يقدم شهادة وعرض لبعض المشاكل الموروثة من الماضي الشيوعي، ويميل إلى عرضها في أساليب تميل إلى اللامعقول، الواقع في رومانيا معقد وكارثي لأسباب اقتصادية واجتماعية ووجود فوارق طبقية مما جعل البؤس حالة شبه عامة.
“ما وراء التلال” لم ينسحب من الشواغل الاجتماعية كون الفقر واليتم دفع بالفتاة فويتشينا إلى هذا الدير وليست القناعة والإيمان، في هذا الدير نتعايش مع العزلة والمناظر الطبيعية الثلجية، وجود الشيطان والهستيريا وصلوات وطقوس لطرد الأرواح الشريرة هذه الخلطة في فيلم روائي طويل هو الثالث للمخرج كريستيان مونجيو فيلم نسمع الكثير من الأصوات كأننا في حالة رعب. حاول المخرج أن يقتحم هذا المجتمع الديني ويزرع فيه التمرد، آلينا نجحت في زعزع استقرار النظام الداخل للدير، كانت شجاعة ورائعة ودفعت حياتها ثمن هذه الثورة.
في حديث صحفي مع صحيفة لموند الفرنسية، كشف المخرج أن مرجع الفيلم يستند إلى حادثة حقيقية وقعت 2005 في دير أرذوكسي، وكان هناك كاهن يمارس طقوس طرد الأرواح وقتل إحدى ضحاياه ولكن الفيلم لم يقف مقيدا ليحكي هذه القصة وتوسع ليتعمق في هموم المجتمع من خلال هذه النماذج ويعطي للبؤس مساحة مهمة وخصوصا أن المأساة تأتي بسب اليُتم والحرمان وظاهرة رمي الأطفال موجودة في رومانيا، كما أن البطولة في هذا الفيلم تكون للحب.
(ميدل ايست أونلاين)