متى تقتنص الفكرة؟

- متى تقتنص الفكرة؟ - 2024-11-11
- وهم القراءة وقراءة الوهم! - 2024-09-23
- ذكاء أم جهل عاطفي؟ - 2024-08-19
الفكرة الشعرية كائن حي ينبض بالحياة، تسكن في عالم خفي بين الشعور واللاشعور، تظهر وتختفي مثل طيف عابر. حين تأتي، تكون في لحظة من العفوية التي لا تحتمل القيود أو التحكم المسبق. يعرف هذا الشعراء ويعرفون أيضا أن الفكرة الشعرية لا يمكن إجبارها على البقاء أو التطور تحت الضغط، فهي مثل فراشة ترفرف بجناحيها في فضاء شاسع، تختار وقتها المناسب ومكانها الأثير وليس على الشاعر سوى محاولة اللحاق بها، والاقتراب منها بشغف ثم اقتناصها.
لكن اقتناصها بعنف قد يكون مثل محاولة إمساك الفراشة، والنتيجة في كثير من الأحيان تكون واحدة: فقدان الجمال أو تشويهه على أقل تقدير.
الشعراء والفنانون عبر العصور لطالما أدركوا أن الأفكار الشعرية تشبه الرحلة، بلا وجهة محددة. الفكرة تهرب وتعود، وربما في هروبها تجد نموها وازدهارها. أما محاولة السيطرة عليها أو تكبيلها بالقوة، فهو انتهاك لروحها الحرة وجمالها المتوقع. وربما تأتي الفكرة على هيئة خاطر عابر أثناء مشي في الحديقة، أو تأمل لحظة غروب، أو حتى لحظات سكون ملتبس في فترة ما قبل النوم مباشرة، فتتسلل إلى الوعي ثم تختفي مرة أخرى في اللاوعي، لتعود مجدداً بعد ساعات أو أيام أو حتى سنوات، لكن هذه المرة أكثر نضجاً.
تلك العفوية التي تأتي بها الفكرة الشعرية هي مصدر قوتها وجاذبيتها. والشعر بطبيعته يتغذى على الإلهام اللحظي، ويفقد بريقه إذا ما تحول إلى عمل ميكانيكي مكرر. والإلهام يحتاج إلى فضاء واسع من الحرية، ولهذا لا يمكن أن يتحقق تحت الضغط أو الإكراه بأي صورة من الصور. بل إن أجمل القصائد وأعمق الأعمال الفنية كانت وليدة تلك اللحظات الفريدة من التجلي، حينما جاء الإلهام بلا سابق إنذار، ومن دون أي محاولة للسيطرة عليه، أي بكامل الحرية.
حسناً.. قد يبدو هذا تناقضاً أحياناً، لكن الفكرة الشعرية تحتاج إلى مزيج متوازن بين الحرية والانضباط. فالحرية هي ما يسمح لها بأن تتشكل وتنمو، أما الانضباط فهو ما يسمح للشاعر بأن يستعد لاستقبالها عندما تعود. والشعراء الحقيقيون يعرفون أن الوقت ليس دائمًا مناسبًا لاقتناص الفكرة، بل قد يكون على الشاعر أن يتحلى بالصبر، وأن ينتظر تلك اللحظة التي تعود فيها الفكرة إليه من تلقاء نفسها، جاهزة لأن تتجسد في كلمات.
لكن متى تقتنص الفكرة؟
ليست كل الأفكار الشعرية هاربة إلى الأبد. بعضها يعود بإرادته، وإذا كانت الظروف ملائمة، فإن الفكرة تأتي إلى الشاعر جاهزة لتتحول إلى قصيدة أو عمل فني. الأمر أشبه بالنهر الذي يجري في مجراه الطبيعي؛ لا تستطيع إجبار النهر على تغيير مساره، لكنه في نهاية المطاف يصل إلى المحيط.
الكتابة الشعرية، مثل كل الفنون، تعتمد على أن تترك لنفسك ولأفكارك مجالًا من الحرية. لا تجبر نفسك على إنتاج القصائد أو الأفكار. بل كن صبورًا، دعها تهرب إن أرادت، ستعود إليك إذا كان ذلك مقدرًا. الفكرة الشعرية لا تعرف الزمان أو المكان، لكنها تعرف صاحبها، وستعود حين تجد الوقت مناسبًا. كن مستعدًا لاستقبالها عندما تعود، واحرص على أن تكون جاهزًا، ولكن لا تسعَ خلفها بالقوة. الشعر ليس ساحة صيد، بل هو حقل من الورد الذي ينمو بطبيعته.
الفكرة الشعرية الهاربة هي جزء من الطبيعة الإبداعية البشرية. إنها تجربة متكررة لكل من يحمل في داخله شغف الكتابة أو الفن. الهروب ليس فشلًا، بل جزء من العملية الإبداعية التي يجب احترامها. لا تسعَ لاقتناصها عنوة، بل اترك لها الحرية. في يوم من الأيام، ستعود إليك أكثر جمالًا وقوة، وعندها ستكون جاهزًا لاستقبالها وتحويلها إلى عمل خالد.
** المصدر: جريدة”الشرق”