مركزية الذات و دلالاتها في ديوان ” لا ينام البحر الا وحيدا ” للأديب التونسي حافظ محفوظ – فاطمة بن محمود

الجسرة – خاص

يعتبر حافظ محفوظ من أهم الأسماء الأدبية في تونس الذي تجاوزت كتبه العشرين مؤلفا بين الشعر والسرد والكتابة المسرحية وغيرها.. وقد أصدر أخيرا عن دار ” الأطلسية للنشر ” آخر دواوينه الشعرية بعنوان ” لا ينام البحر الا وحيدا “في حجم متوسط، يضم الديوان 22 قصيدة تمتد على 118 صفحة.

عن الذات و الذاتية :
اقترنت الذات بالإنسان الفرد، و يعود تشكلها الى المرحلة الحديثة و تحديدا مع الفلسفة الديكارتية من خلال الكوجيتو الشهير أنا افكر إذن أنا موجود بما يفيد ان الذات هي ذات واعية و عالمة تملك القدرة على تمثل عوالمها المختلفة و إدراك مجالات تحركها
مع ديكارت تتموضع الذات في مواجهة للامتداد أو الوجود المادي
إذا بقينا نقتفي اثر الذات سنجد انها ستأخذ شكل الأنا مع فرويد و تصبح في علاقة بعناصر الجهاز النفسي للإنسان لكن ما يهمنا في الحقل الشعري ان نتبين طبيعة الذات الشاعرة تحديدا و التي قد تكون الذات فيه مفهوم حديث و لكن في دلالتها لها بعد عميق نتمثله في أغلب الشعر الذي كتبه الإنسان والذي يعود بنا إلى التاريخ القديم و تحديدا منذ أن أدرك الإنسان سلطة الكلمة و قوة تأثيرها بتنزيلها ضمن خطاب أدبي شعري رافق الإنسان دائما في كل تاريخه .
الذاتية :
يمكن تحديدها بعكسها وهي الموضوعية و اذا كانت الموضوعية تعني أن ننظر إلى الأشياء من خارجها بوصفها و معاينتها وهي عادة ما ترتبط بالمعالجة العلمية. فان الذاتية تصبح هي مجموع الأراء و الانطباعات والانفعالات التي تتكون للإنسان كفرد في علاقته بنفسه وبالعالم من حوله بمعنى ان: الذاتية هي نظرة الأنا وتفاعلاتها المختلفة.
إذا كانت الذات هي الفرد الواعي والمدرك لأناه و لما حوله فان الذاتية هي تلك المواقف والانفعالات والرؤى التي تصوغها ذاتها في معرض إنشغلاتها وتفاعلاتها المختلفة
هذه الذات في ديوان حافظ محفوظ ( لا ينام البحر إلا وحيدا ) تعبر عن ذاتيتها وأحيانا تلتجئ إلى اعتماد الموضوعية كأسلوب فني لتأكيد النزعة الذاتية خاصة في ترجمة انفعالاتها والتعبير عن رؤاها ( قصيدة “الوردة” ص 47 ) :
الوردة بنت الوردة،
صاحبة البتلات الحمراء
قالت لفراشات كانت ترعى حمرتها
لا تأخذن اللون و تتركن عطوري..”
اذا كانت الذاتية حاضرة بقوة في هذا الديوان وتعبر بشدة عن الذات فانه من الوجاهة أن نتحدث عن الذات الشاعرة التي تصوغ ذاتيتها من خلال قصائد هذا الديوان
دلالات الذات الشاعرة عند حافظ محفوظ:
الذات الشاعرة ( لا أتحدث عن ذات الشاعر)هي ذات مرتبطة بالوجود الشعري لا تصف الواقع بل تغوص فيه و لا تعبر باللغة بل تخلق اللغة ولا تقول الأشياء بل تعيش الأشياء، إنها ذات متشظية وتتكون من مجموع أنوات. ولذلك تتشكل وفق صيغ متعددة فنجدها الأنا العاشقة ، الأنا الثائرة وأنا غيرية..
أ / الأنا العاشقة:
1 /علاقة الذات الشاعرة بالأنثى ( المرأة، الثورة، الذاكرة )
يتحدث الغذامي في كتابه ” اللغة والمرأة ” أن تذكير المؤنث واسع جدا لأنه رد إلى الأصل ” و هذا يعني أننا نجد المؤنث يهيمن على الأشياء من حولنا بمعنى انه ليس المقصود بالأنوثة مجرد إحالة على المرأة فقط بل هي مجموع صفات و دلائل ( دون أن أدخل في صراع تذكير اللغة وتأنيثها ) بل اعتمد هذه الصيغ الأنثوية للحفر في القصائد وإبراز إيحاءاتها المختلفة. في ديوان ” لا ينام البحر الا وحيدا ” تسيطر الأنثى على اهتمام الشاعر لذلك نجدها في تجليات مختلفة فهي المرأة / الثورة / الذاكرة.
المرأة :
تبدو العلاقة بين الشاعر والمرأة مرتهنة الى مشاعر مختلفة هي التي تحدد طبيعة المسافة بينهما لذلك تهيمن المرأة في حضورها كما في غيابها من ذلك قصيدة ” بعد أمسية شعرية ” ص 87:
تسألني فتاة : كيف تكتب ؟
دون أن ترتاح عيناها من التحديق في وجهي
تقول بصوتها المائي:
يعجبني المجاز، وأنت تصنعه بيسر
والكنايات الطريفة
كم أحب وجودها في النصّ
لكني أرى التشبيه أبلغ في قصيدتك الأخيرة.”(…..).

هذه القصيدة تتضمن مجموعة من المغالطات:
المغالطة الأولى : من جهة يتحدث عن المرأة التي تتفاعل مع القصيدة ولكنها في هذه القصيدة تتحول المرأة الى قصيدة، يوهمنا الشاعر بأن هناك فصلا بين المرأة والقصيدة لكن هذا الإيهام سطحيا.
المغالطة الثانية : يوهمنا الشاعر انه وقع فريسة لشغف امرأة، في حين ان القصيدة تقول غير ذلك فالمرأة هي التي تحولت غلى ” فريسة ” القصيدة وفي الحقيقة هي تحولت غلى ضحية الشاعر الذي جعلها موضوعا شعريا.
المغالطة الثالثة : يظن القارئ للوهلة الأولى ان القصيدة تتحدث عن إعجاب قارئة بقصيدة الشاعر ان انه يقدم هنا انطباع بما هو تأثير ما بعدي للقصيدة في حين ان هذه ” المابعدية ” في الحقيقة تمثل جوهر القصيدة .
هذا يعني ان المرأة عند الشاعر هي:
كون شعري، هي مشرع حياة، من خلالها يدرك أناه وبواسطتها يدخل القصيدة ، المرأة هنا هي شرط وجود .. يعيش معها تفاعلات مختلفة و متناقضة هي التي تجعل للحياة معنى و للشعر مبررا.
في قصيدة ” رقصة تانغو ص 92″ و ” نمضي معا ص 65 “.. يتحول الى إله يعيد خلق عالمه وللمرأة نصيب فيها.
الآن، أصبّ اللون الزهريّ على أجساد نساء يتمايلن يمينا
واللون البنيّ على أجساد رجال يرتعون وينحدرون يسارا
وبرفق أطلق موسيقى.(….).
( رقصة تانغو ص 92 )
2 / الأنا الثائرة
علاقة الذات الشاعرة بالثورة تأخذ أشكالا متعددة:
الثورة على النظم السائدة:
في الحقيقة كل شعر هو ثورة بطبعه ثورة ضد الرداءة وضد الروتين و ضد السائد وضد الحقائق الجاهزة و ضد اللغة المنتظمة و كما يقول أدونيس ان مهمة الشاعر هي تثوير لغته وتجديد صياغاته وخلق صوره و شحنها بدلالات التمرد و الرفض للأحكام المسبقة والمعارف الجاهزة
اخترت لهذا قصيدة ” لولا إسمك ” ص 83
لولا اسمك
يصعد درجات الأكروبول إلها بونيا
ويشيّد قاهرة في أم الدنيا
ما حلّت جازية في الموّال ضفائرها
ما شقّن كاهنة كبد الأرض بخاتمها
وبكت أبناء الريح
وما كنت في هذا الليل الجرد
أقطف قافية من غصن لغاتي
لولا اسمك يا تونس ما اخترت حياتي. (….).
الثورة من أجل الأفكار الجديدة:
كما ان الجانب الثوري في هذا الديوان تتمثل في رصد الافكار التحديثية و التقدمية وهو ما يتجلى بمواجهة الارث الاجتماعي الذي يبرر الخمول و التكاسل و الرضى بما هو مقدّر و يكون ايضا بادانة الظلم و التشهير بالقبح و الرداءة
مثال قصيدة ” المرآة ” ص 59.
هذه المرآة…
هذا وجه أسلافي عليها،
ليس لي منه سوى عينيّ تمتدان إليه
ترسمان البعد عني
ربما
أو تمحوان الشكل كي لا تحتفي المرآة بي.(…).
الثورة من أجل التغييرالإجتماعي:
كما يبرز الجانب الثورة في الاحتفاء ب”الثورة ” التونسية والاشادة بالقدرة على التغيير و مواكبة صرخات المظلومين و المهمّشين وهم يطالبون بالعدالة والحرية و المساواة
مثال قصيدة ” لا ” ص 23 و قصيدة ” شهيد ” ص 49 وقصيدة ” نعيش نعيش ” ص 95 .
(…)
اني أرفع لاءاتي
لا لمديح الظلمة يتعثر في يأس الفكرة ن دمها
لا لأياد تحملني و تلاطف في السر بنادقها
لا لريق تمضي بأنين الشعب إلى غيبتها
لا لكمين في روح الناعي والباكي…. (…). قصيدة ” لا “ص 24
ما يمكن أن نستنتجه ان تجربة حافظ محفوظ الشعرية تتنزل مع جيله في سياق طريف إذ يأتي خلاصة ثورات مخلتفة :
هناك ثورة ضد القصيدة الكلاسيكية .. ثورة الشعراء الرواد
ثورة ضد الظلم و الوعي النمطي والأحكام المسبقة: ثورة المبدعين و المثقفين
ثورة ضد أنظمة دكتاتورية و فساد سياسي: ثورة الشعوب المهمّشة والمقهورة
ولعلنا نتساءل أي ملمح ستكون عليه المرحلة القادمة ؟
هذا ما ستفصح عنه الدواوين اللاحقة.

3 / الأنا الغيرية
علاقة الذات الشاعرة بالذاكرة:
في ديوان ” لا ينام البحر إلا وحيدا ” يطغى حضور الذاكرة وتأخذ أشكالا مختلفة :
– الذاكرة الحسية التي ترتبط بالمكان وبالأشخاص ( قريته، أهله…)
– الذاكرة غير الحسية التي ترتبط بقيم إنسانية ( الألفة المحبة التضحية.)
تقوده إلى الذاكرة روابط شتى مثل الحنين و الشوق. حضور الذاكرة يعني إلغاء الواقع وهي طريقة يلجأ إليها الوعي في كل مرة يفقد فيها تواصله مع ذاته و مع العالم من حوله، تصبح الذاكرة ملجأ.
الذاكرة والمكان
اخترت أن أتحدث عن المكان نظرا لان علاقة الإنسان بالمكان عادة هي علاقة مركّبة ومتشابكة تفتح على مفاهيم أخرى هامة تتعلق بالإنسان وبالحياة وبالموت والسعادة الخ..
هذا ما يجعل عودة الشاعر إلى الذاكرة ليس لاستحضار الأمكنة والأشخاص بل هي عملية خلق لعالم آخر مواز فالذاكرة توهمنا انها تعود للماضي لكنها في الحقيقة هي إعادة تركيب للحاضر بعناصر ماضوية
قصيدة الفلك ص 69.
(….)
ما لي أرى ما لا يُرى وأصيح في أهلي
إلى فُلكي تسير الأرض
ما لي أقتفي آثارها
وأجدّ في طلب الحياة إلى الحياة
و أرسم الموتى على أطلالها ؟
وحدي أدلّ الطير
كي أبقي على لون الصباح
أدلّ أجنحة الفراشة
كي يكون ربيعها
وأدلّ ما يأتي إلى ما كان في حلمي مراكبها
لأكمل رسمها. (….) ص 74 .
فهو عندما يتحدث عن قريته الهادئة والمناظر الطبيعية الخلابة والذكريات العائلية الجميلة لا يعني ضرورة انه يريد العودة الى العيش فيها بل هي طريقة لابتكار مكان مواز للمكان الذي يعيشه بتوليد مكان يعيش داخل الذات الشاعرة هذا المكان الجديد الذي يمكن لكل واحد فينا أن يحمله هو عالم إيتوبيك يحمل عناصر يفتقدها الشاعر في المكان الحسي ( الصفاء الهدوء المحبة ..) فالقرية التي يستحضرها الشاعر ليست هي نفسها القرية الحقيقية التي قد تكون مربكة أيضا وتخالطها بعض الشوائب (الفوضى الأوساخ..) لكن الكاتب يقوم بعملية تنقية للمكان الحقيقي ليخلق مكان مثالي وافتراضي يطيب فيه العيش وهذا ما يجعل من هذا المكان خيالي.
لماذا يحتاج الشاعر إلى مكان خيالي ؟
انتقال الشاعر من مكان جغرافي إلى مكان افتراضي يسمح له :
– اختراق الحدود الحسية وتوسيع الحقل التخيّلي وهو ما يمكنه من ابتكار صور و دلالات جديدة
– يحتاج الشاعر إلى نوع من الحماية من واقع حسي معولم يتميز بالقسوة وكثرة الضغوطات التي تجعل المرء يعيش نوع من التوتر تجعله غير آمن، من تمظهراته الخوف من المجهول مثلا..
لذلك ننتهي أن المكان في ذاكرة الشاعر حافظ محفوظ هو مكان نفسي وذهني وأدبي أي انه فضاء شعري لاغير. هي طريقة يفكك بها الشاعر عناصر واقعه و يركّب عالم آخر مواز وهذا ما يجعل من الذاكرة أداة استنطاق ومحاسبة لذات الشاعرة، فالشاعر هنا يقوم بتصفية حساب مع واقع ردئ ومعولم وهذا اختيار يعتمده الآن كل مبدع متصالح مع ذاته و مع واقعه و يعتبر مقاومة العولمة هي رهان ثقافي وإبداعي وجمالي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى