مصر الضرورة -د.حيدر البستنجي(الأردن)

الجسرة الثقافية الالكترونية-ذوات-

التأمل في الواقع العربي الراهن، وخصوصاً بعد خروج مصر الهائل من صيرورة الزمن العربي وتكبيلها بقيود المعاهدة المشؤومة (كامب ديفيد) والتردي المتواصل للعالم العربي دون مصر ودورها حضوراً وفكراً وريادة..  كل هذا السياق أعادنا إلى المربع الأول، وهو العلاقة الجدلية بين مصر والمحيط ، وجوهر الضرورة التي لا بد منها للتخلص من عبء الحاضر المتردي، وما العدوان الإسرائيلي على غزة إلا أحد تجلياته القاسية.

بالعودة للسياق الحضاري، فإن مصر التي بنت دولة مركزية منذ ماقبل 3200ق.م وشهدت ولادة فجر الحضارة بمفهومها الأنثروبولوجي علاوة على الأنساق الحضارية الدائمة حول مجرى النيل ربما من فترات أبعد، فهي على رأي الاميركي جيمس هنري بريستد –  شهدت ولادة “فجر الضمير الإنساني”. وقد حافظت مصر على حيويتها عبر التاريخ بتفاعلها الدائم مع المحيط، وخصوصاً بلاد الشام والحجاز؛  فكانت تزدهر بالخروج من الوادي وتتراجع كلما انكفأت عليه.

وقد أدرك العرب جُلّهم  مكانتها وأهميتها، بل وأفردوا لها الساحة كي تتصدر وتقود لأنها صاحبة التميز والتفرد في الموقع الجغرافي، والكتلة البشرية، والثروة العامة، والمستوى الثقافي، ورسوخ الدولة فهي الدولة القاعدة أو بروسيا العرب كما قال المفكر العروبي ساطع الحصري؛ فهي صاحبة الزعامة الطبيعية للقومية العربية، ولم تغب هذه الفكرة عن معظم المفكرين المصريين الذين أدركوا بحكم الجغرافيا أن حياة مصر بخروجها نحو محيطها الأوسع، وأن عبقرية المكان خلقت لمصر دوراً محورياً لا بد لها من لعبه كي يتنفس الوادي،  إذ يلخص  د. جمال حمدان في كتابه “شخصية مصر” الدور المصري بجملة بليغة وموجزة “أن مصر تقع على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب، فهي تقع في الاول لكنها تواجه الثاني، وهي قلب العالم العربي، وواسطة العالم الاسلامي، وهي تجمع أطرافا متعددة، مما يجعلها سيدة الحلول الوسطى”. لهذا كله تقف مصر على قدم المساواة مع الجيران الكبار مثل تركيا وإيران وإسبانيا. ولديها القدرة، إن قادت وسادت محيطها العربي، على الانطلاق إلى المجال العالمي، والتميز عن جيرانها، ومضاهاة كبار أوروبا علماً وحضارة وإقتصاداً.

وفي الوقت الذي تتعالى فيه صيحات القُطرية والفردانية البغيضة، يغيب عن المصريين والعرب أهمية مصر ودورها الذي يدركه الأعداء ويعملون على تفتيته،  فقد أدرك الاستعمار منذ البداية مكانة مصر ودورها، ومنذ الحملة الفرنسية على مصر، والقوى الاستعمارية الأوروبية الحديثة تنطلق من قناعة مفادها أن مصر هي القلعة والحصن، لذلك كانت وما زالت وستبقى هدفاً لضرباتهم ومؤامراتهم، ومن هنا تأتي استراتيجية عزل مصر عن محيطها العربي.

ودائماً ما كانت استرتيجية الغرب تقوم على خنق أي مشروع وحدوي نهضوي ينبع من مصر بالقوة والمؤامرة، إن أمكن، أو بخلق تيار انعزالي  مصري  مجافٍ لعروبة مصر، والعلاقة مع المحيط العربي والاسلامي – وهو ضئيل والحمد لله –تحت شتى الذرائع مثل الدعوة لمصر أولاً، والفراعين، وغيرها. فلا يمكن تفسير العداء الغربي لمشروع محمد علي النهضوي وقرارات مؤتمر لندن 1840 لخنق نهضة مصر والتي تكررت مع بروز زعامة عبد الناصر سوى في إطار التخوّف من خطورة إفساح المجال أمام مصر لتتمتع بمزايا المكان والتاريخ، وتمارس دورها  القادر على مخاطبة الغرب أو مواجهته، والذي يصنع قاعدة حقيقية لحركة النهضة والتقدم . وفي السياق نفسه يمكن فهم استحقاقات معاهدة كامب ديفيد التي كانت لحظة التقاء المؤامرة الصهيونية بالتيار الانعزالي في مصر كمقدمة لعزل مصر عن العالم العربي، أو الاستفراد بالعرب دون مصر، فتخنق الأول أي مصر، وتستقوي على الثاني فلا تقوم للعرب قائمة بعد ذلك.

لا أمل للعرب دون مصر، ولا حياة لمصر دون محيطها العربي. هذه العلاقة الجدلية ليست ترفاً بقدر ما هي خلاصة الجغرافيا وعبق التاريخ، ولذا يصبح استعادة مصر مطلباً نهضوياً مصرياً  بقدر عروبته وأصالته، فلا حل لهموم مصر ومشكلاتها دون أن تنهض بدورها، وتكسر الطوق المفروض عليها لتعود قلب العروبة النابض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى