مغامرة الكتابة وتجريب المختلف قراءة في رواية “خارج السيطرة” للكاتب عبد اللطيف ولد عبد الله

العلجة مودود

(خاص الجسرة)

طالما كانت الأعمال الأولى للروائيين محل اهتمام كبير بالنسبة لنا نحن كقراء وكمتابعين للأدب، لأنها دائما تمنحنا متعة الاكتشاف اكتشاف التجارب الجديدة والتيقد تبعث بمشروع روائي فريد مستقبلا، لأن الكتابة الأولى غالبا ما تدخل حيز الهامش حينما تصطذم بواقع ضعف المقروئية وصعوبة النشر وغياب وسائل الاعلام عن المشهد الثقافي في بلادنا خصوصا إذا كانت لكتاب شباب لا يراهن أحد على إبداعاتهم, ولعل هذا ما يفسر شعور السعادة والأمل ونحن نقرأ لأول مرة رواية خارج السيطرة للكاتب عبد اللطيف ولد عبد الله، وهو شعور أساسا نابع من طبيعة العمل في حد ذاته إذ نجد أنفسنا أمام نص يقدم للقارئ على أساس من كونه رواية بوليسية ولعله سبب كاف ودافع قوي للقراءة، استكشافا لنوع روائي غائب وغير مطروق في الرواية الجزائرية رغم تاريخها الطويل، وكأنه جاء تلبية لسؤال ملح يفرض نفسه بقوة عن سبب غياب التنوع في الرواية عندنا والذي يمكننا من الحديث حينئذ عن رواية تاريخية، رواية بوليسية، رواية فلسفية، رواية عرفانية، وغيرها، وإيمانا منا بأن الكتابة مغامرة كبرى فإننا نكبر في الروائي ولد عبد الله خوض هذه التجربة التي قدمت لنا رواية بوليسية بخصوصية جزائرية وهذا هو الأهم والخصوصية هنا لا تعني الانغلاق على الذات بقدر ما تعني كيفية تقديم هذا الأدب المعروف عالميا بشكل يلائم القارئ العربي بشكل عام، كما أننا لا ننكر أن عبارة رواية بوليسية ستكون عامل جذب لكثير من القراء المهتمين بهذا النوع من الأدب.
أهم ما يميز رواية “خارج السيطرة” أنها كانت رواية التفاصيل بامتياز، هي رواية قدمت لنا عالما روائيا خصبا قائما على الوصف الدقيق للأشياء، للشخوص ، للفضاء، وللمحيط الذي تتوالى فيه الأحداث، وكم هي جميلة تلك التفاصيل التي تجعلنا كقراء ننتبه بطريقة ما الى ذلك العالم الذي يشبهنا حقيقة، أو حتى إلى تلك الأفعال والطقوس والعادات التي نمارسها يوميا دون أن نلقي لها بالا في كثير من الأحيان، ونحن نقرأ كنا نستمتع بجمال المشاهد والصور والفقرات والتي كانت تبدو كصور فوتوغرافية التقطتها كاميرا فنان محترف، حتى أن طريقة العرض هذه أنستنا السؤال عن هوية المجرم رغم أنه السؤال الأهم في أي رواية بوليسية، وفي اعتقادنا أن الرواية الناجحة هي الرواية القادرة على خلق ذلك الشغف لدى القارئ الشغف بأي شيئ كان : بفكرة ما، بمعنى ما، بتفصيلة ما، بقضية ما، وقد يكون شغفا بحدث عارض غير ذي أهمية وتتبع مساره حتى النهاية، والظاهر أن دقة الوصف هذه تنبع من مخيلة روائية يتكئ عليها الكاتب لخلق إبداعه الخاص فليس سهلا أن تبتكر عالما روائيا مليئا بشتى الصور والدقائق، خصوصا في عملك الروائي الأول؟

الاحتفاء بالإنسان كان ميزة أخرى راهنت عليها الرواية بشكل لافت بدءا من هويته الاسمية، وجوده الفيزيقي بمظاهره المختلفة: الشكل الخارجي، تقاسيم الوجه ومعالمه، ايماءات الجسد طريقة المشي، ماركاتو وألوان الأزياء، وحتى شكل الحذاء وساعة اليد، كما أنها لم تغفل تمثيل هذا الوجود الإنساني في جانبه النفسي والوجداني: أشد اللحظات حزنا وأشدها سعادة، مشاعر الغضب، الخوف، الألم، الوحدة، ومشاعر الحب، مرورا بمشاعر السخرية، التهكم والاشمئزاز، كل ذلك كان جليا ونحن نسيرجنبا الى جنب مع البطل أحمد المحقق الشاب في رحلة بحثه عن الحقيقة وشخوص الرواية الآخرين، كانت رواية الجريمة والقتل والتحريات ولكنها كانت رواية الإنسان الإنسانالجزائري في يومياته، في بساطة عيشه، في صراعه وسط مجتمعه وعلاقته بواقعهوفي جميع انكساراته واحباطاته، ولو أننا لم نقرأ اسم الكاتب على الغلاف لقلنا أن بعض المقاطع الوصفية هي لأحد كبار الروائيين.
كما لا يفوتنا التنويه بميزة أخرى وهي القاموس اللغوي الثري للكاتب والذي ينم عن اشتغال مكثف باللغة لا على مستواها الاستعاري بل على المستوى المفرداتي والذي أنتج غزارة لغوية تسمي الأشياء بمسمياتها الدقيقة، كل ذلك وفق أسلوب سلس واضح المعالم يتماشى وطبيعة النص البوليسي والذي يبدو أن الروائي ولد عبد الله كان على معرفة خاصة به.
أن تكتب الجريمة يعني أن تمارس نقدا لمختلف مظاهر الفساد في الجزائر ولمختلف الهيئات والمؤسسات التي ترعاه ، كنا نحبذ لو كانت جريمة القتل بابا واسعا يفتح على عالم الاجرام في الجزائر، وكنا تمنى لو كان هناك تعاطي عميق مع نفسية وسلوك المجرمين.
فكرة جميلة أن نحاول الخروج من صرامة النص البوليسي بتطعيمه بأبيات من الشعر العربي، والترنم ببعض أغاني الراي الفن الأكثر شعبية في الغرب الجزائري الفن المرتبط بأكثر طبقات المجتمع هامشية، النهاية السعيدة ، كلها ملامح تجربة فتية فتحت شهيتنا للقراءة وللانتظار، فلنهيئ طقوس الاحتفال إذن بميلاد كاتب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى