مقامات عربية من عالم السريالية
- مقامات عربية من عالم السريالية - 2025-10-19
- الفن.. شفاء الخائفين - 2023-12-26
- قالت له العيون - 2022-05-19
في العاصمة البريطانية حيث كانت تدرس وتقيم سعاد العطار، عرضت لوحاتها تحت عنوان (مدينتي الملونة) تتغنى فيها بالحدائق الآشورية وملامح بغداد التي لم تفارق أحلامها. ثم وقع الغزو الأميركي الذي عصف بالعراق وفقدت سعاد شقيقتها الفنانة ليلى وأسرتها إثر قصف صاروخي لمنزلهم.
من لوعة القلب نسجت سعاد أحزانها في مجموعة جديدة من اللوحات باسم (مدينتي المحترقة).
بين المدن الملونة والمدن المدمرة تتراوح الأحلام والكوابيس ويشتعل وجدان كثير من الفنانين العرب. تعددت الأسباب واختلفت المدن والشوق واحد:
(حلم التحرر من أغلال الواقع وبناء عالم أجمل وأرحب).
يمضي الصراع بلا انقطاع بين الأحلام والكوابيس؛ لأن الأغلال لها غيلان يطاردون الحلم والحالمين، يفتشون عن بذور الأمل قبل أن تنضج أو تثمر، يلاحقون منشدي الأحلام ويتربصون بهم فلا مهرب لهم إلا دروب السريالية يدسون أحلامهم بين سطور الأشعار ويخفون صورهم في لوحاتها.
كيف صارت السريالية ملاذًا آمنًا للأحلام؟
ربما لأنها تحتضنها وتعتمدها نبعًا لشحناتها العاطفية تستمد منها عناصر تشكيل العمل الفني والرؤى التي لا تحاكي الواقع ولا تتبع القواعد الجمالية المعروفة.
كانت السريالية ضرورة نفسية واجتماعية جاءت ردًّا على قصور العقلانية والمنطق الصوري، وفشل الإنسان في منع الدمار الذي حل بالدنيا نتيجة الحرب العالمية الأولى. فظهرت كتيار فكري له تجلياته الثقافية والفنية التي تدافع عن الإنسان، تكشف مخاوفه وأحلامه الخفية وتبعث طاقاته الكامنة، ترافق ذلك مع كشوف ألبرت آينشتين في الفيزياء ومنهج فرويد في تفسير الأحلام، في نفس الوقت ذاعت أفكار فاسيلي كاندينسكي (الروحانية في الفن) ودعوته إلى الكشف عن العالم الداخلي الخفي للمشاعر الإنسانية وجوهر الأشياء؛ فالصور الخارجية وحدها لا تعبر عن الحقائق كاملة. وعلى هدي الكشوف العلمية الحديثة بزغت حساسية جديدة في الآداب والفنون تمثلت في روايات جيمس جويس وأشعار إليوت (الأرض الخراب 1922) ثم خرج الشاعر الفرنسي أندريه بريتون عام 1924 يعلن البيان التأسيسي للحركة السريالية دعوة لتحرير العقل من قيوده وإطلاق العواطف المكبوتة.
(دع عقلك وافتح قلبك.. أطلق العنان لأحلامك)
الدعوة الجديدة ردت الاعتبار إلى عالم الأحلام والحالمين وكانوا قبلًا يعدون مرضى سلبتهم الهلاوس عقولهم، إلا أن نظريات فرويد عن الأحلام (نافذة إلى أعماق النفس البشرية) جذبت اهتمام السرياليين وتأثروا بقدرتها على كشف غموض الصراعات النفسية والرغبات المضمرة، فنظروا إلى العقل الباطن كمصدر رئيس للإبداع وخلق أعمال تتجاوز الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، تثير الدهشة وتحرك النفوس الراكدة.
الحرية للجمهور
الفنان الإسباني سلفادور دالي (1904 – 1989) أشهر رواد السيريالية لغزارة إنتاجه وتنوعه، لوحاته تعد تجسيدًا لتأثير نظرية فرويد، حيث تصور مشاهد غريبة وتعكس بعض الظواهر النفسية مثل: القلق والرغبات الشبقية المكبوتة والهلوسة، دمج الواقع مع الحلم، تحتشد لوحاته بعناصر مفككة من الأجسام الغريبة لا رابط بينها في الظاهر، فعلى سبيل المثال لوحة (أسرار الذاكرة) رسمها عام
(1931) جمع فيها أربع ساعات غريبة الشكل كأنها صنعت من قماش؛ واحدة منها مطوية في مركز اللوحة ملقاة على أرض جرداء كأنها سرج حصان راقد، وأخرى معلقة على فرع شجرة جافة كما ينشر الغسيل على الحبال، واثنتان في ركن اللوحة بذات الشكل الرخو. يبدو المنظر العام غريبًا.
يثير الدهشة وفضول المشاهد لفض غموض اللوحة ومعرفة ما تشير إليه الرموز وتتعدد التفسيرات، كل حسب اجتهاده وخبراته وإدراكه للمعاني الخفية. وهذا بعض ما يصبو إليه أنصار السريالية: حث المشاهد على التفكير ودفعه ليتغير دوره من التلقي السلبي إلى المشاركة النقدية، هم لا يريدون لجمهورهم أن يبقى مستهلكًا لما يتلقاه من أفكار، ويطمحون أن يشارك بإيجابية في عملية إنتاج المعنى وفك شفرة اللوحة، بذلك يحفزون طاقات الجمهور الكامنة ليتفاعل بصورة إيجابية.
هذا التصور للعلاقة بين الجمهور والعمل الفني منح السريالية طابعًا تحريضيًّا ونزوعًا للتمرد على القواعد، فصارت لها جاذبية بين الأجيال الشابة. وكان أن توافق عدد من الشباب على تأسيس جماعة (الفن والحرية) بالقاهرة عام 1938 لنشر دعوة السريالية لتحرير العقول وإطلاق حرية الفكر والإبداع كمقدمة ضرورية لتحرير الوطن. ضمت النواة المؤسسة مجموعة شباب عاصروا تداعيات الثورة الوطنية وأتيح لهم الاطلاع الواسع على ما يجري في العالم الخارجي. فمنهم جورج حنين الذي تلقى معظم تعليمه في فرنسا ودرس القانون والآداب في السوربون. وشارك زميله رمسيس يونان الذي كان يعمل بالقسم العربي في الإذاعة الفرنسية بباريس، ثم انضم إليهما كامل التلمساني وإنجي أفلاطون وألبير قصيري وفؤاد كامل وكنعان وحامد ندا.
وإلى حامد ندا (1924- 1990) يعود الفضل في تقريب الأساليب السريالية من الذائقة الشعبية من خلال استخدام عناصر ورموز من البيئة الشعبية التي نشأ فيها بحارة البغالة بحي (السيدة زينب) واستعان بما حفظته ذاكرته البصرية من مظاهر الحياة بالأحياء الشعبية؛ حلقات الصوفية وعازف البيانولا وفناني الأراجوز والحواة الجائلين.
حرية الإبداع والفنان
عمل السرياليون على حث المشاهد على المشاركة في عملية إنتاج المعنى، فماذا عن حال الفنان أثناء إنتاج العمل الفني؟
سؤال حول سيكولوجية الإبداع الفني إجابته عند الفنانة المغربية (الشعيبية طلال) التي لم تسمع عن السريالية قبل أن يصنف النقاد أعمالها بين لوحات السرياليين، قالت في حديث مع فاطمة المرنيسي:
الفن موهبة من عند الله لم يعلمني أحد، ولم أدخل المدرسة في حياتي، لكني وجدت في الرسم راحتي من همومي، أفرح ساعة انشغالي بالرسم. كنت في طفولتي أحب اللعب في المروج، وأجمع الزهور، أغطي بها جسمي كله، وأصنع منها تاجًا على رأسي، فكانوا يقولون عني مجنونة. وفي سن الثالثة عشرة أرغمت على الزواج من رجل طاعن في السن، توفي بعد عامين تركني بطفل وحيد بلا عائل ولا مصدر دخل، فاضطررت للعمل خادمة ببيوت الأعيان، وتعرضت لأشكال من القهر والمهانة، لم يكن من سبيل إلا الصبر طوال النهار، وعندما تخلو إلى نفسها تفرغ شحنات غضبها وحيرتها في خطوط وأشكال عفوية بلا هدف ولا معنى، لكنها خففت عنها وطيبت خواطرها.
ثم شاءت الأقدار أن تقع عين الفنان الألماني هانز فيرنير على رسومها بالصدفة فتدهشه وتثير إعجابه حين يعلم أنها معلمة نفسها، لم تلتحق بأي مدرسة طوال عمرها. عرض هانز الرسوم على صديقه مدير متحف الفن الحديث في باريس فتحمس لعرضها ونالت الإعجاب والتقدير بعدما كان الوسط الثقافي المغربي ينكرها ويعتبرها شخابيط عشوائية. نجاح الشعيبية طلال فتح المجال لزميلات لها مثل فاطمة حسن وراضية بنت الحسين وفاطنة كبوري.
السريالية حررت (الشعيبية طلال) من الفقر والقهر فكيف أثرت في بنت الباشا إنجي أفلاطون؟
عاشت إنجي (1924 – 1989) حياة مترفة؛ فجدها ناظر الجهادية حسن الكاشف، ووالدها أستاذ بكلية الطب بالقاهرة وأمها السيدة صالحة أفلاطون، يحيطها وسط اجتماعي أرستقراطي، يتخاطبون بالفرنسية والإنجليزية، شرنقة كاملة تحوط البنت، وعندما ظهرت مبكرًا موهبتها، أحضر لها الأب مدرسين أجانب يعلمونها قواعد الرسم بالبيت، لكن شغفها الفني قادها إلى خارج الشرنقة، تعرفت على الفنان كامل التلمساني ومعه عرفت الشوارع المزدحمة بالبشر والحكايات والميادين الفسيحة تضج بالمتظاهرين في مواجهة قوات الاحتلال، ثم انضمت إلى جماعة الفن والحرية وشاركت معهم في معرض 1942 بعدما اتخذت من السريالية منهجًا للتعبير عن نفسها؛ فصورت كل ما خطر ببالها من أحلام وكوابيس في لوحات (الوحش الطائر)، (الحديقة السوداء) و(انتقام شجرة). خرجت إنجي من إسار الأرستقراطية إلى بحر الحياة، دمجت همومها الذاتية بالشأن العام، فاستقلت بنفسها عن أسرتها، واندمجت في العمل السياسي دفاعًا عن الحرية والعدالة الاجتماعية حتى صدر أمر باعتقالها مع 25 امرأة أخرى عام 1959 لتمضي خمس سنوات بسجن النساء في القناطر لتعيش تجربة إنسانية وفنية جديدة.
درب الأحلام
بعد عقود من ظهورها انحسرت النماذج الأولى من السريالية وبقي جوهرها مصدر إلهام يستعين بالحلم واللاوعي. تتفاعل أجيال من المبدعين العرب معها بخيال خلاق أضاف لها فكرًا وفنًّا. شقوا روافد تمزجها بالتعبيرية والرمزية ومنحوها ملامح عربية تطرب لها العين.
يظهر التفاعل العربي في إقبال عدد من المبدعات على تبني قضايا المرأة على نهج المزج بين الواقع والخيال في أعمال تستعير رموز وعناصر من التراث والبيئة في تكوينات أقرب إلى الأحلام، فتظهر نساء (عفيفة لعيبي) بملامح لا تفصح عما يدور بأعماقها؛ كأنهن راهبات جبلن على الصبر واحتمال الشدائد، لوحاتها تذكرنا بصور الأيقونات المسيحية وجوه جميلة القسمات، ساكنة مؤمنة راضية أو مستسلمة لقدرها كأننا نرى مشهدًا من عصر الشهداء ترويه صورة الأيقونة.
بينما تأتي رسوم (شلبية إبراهيم) على الحرير قطع من سماء صافية يغمرها ضوء شفيف، بخطوط رقيقة تتبدى الأشكال كاشفة عن ست الحسن والجمال وحوريات الحكايات الشعبية بألوان حالمة، مثل قطرات ماء تنساب وتتدرج تلقائيًّا كأنها ومضات نور خاطفة.
أما عالم (رباب نمر) فهو مزدحم بكائنات مكدسة غريبة الشكل، عيونها شاخصة توحي بمشاعر مبهمة من الخوف والقلق، موزعة بكثافة هندسية وتكرار على مجمل المساحة، تكثف الشعور بثقل وطأة الجو العام. حالة كابوسية تغلب على النساء وتتخلص منها زينب سديرة وناجية مهادجي بالميل إلى الألوان الزاهية في أشكال مجردة تتفاوت مساحاتها. وتتجاوز حدود النمط السريالي التقليدي إلى التجريد.
والحقيقة أن تصنيف الفنانين وأعمالهم خطأ شائع. يتصور قوالب وهمية لتسكين المبدعين وتصنيف أعمالهم، بينما الواقع أن كل عمل فني بحد ذاته هو تجربة جديدة والمبدع لا يوقف عمله على نسق واحد وإلا انتفت عنه صفة الإبداع ووقع في التكرار البليد.
ومن أبدع المغامرات الفنية في هذا المضمار تجارب الفنان محمد حجي ومعالجته لنصوص نجيب محفوظ (أحلام فترة النقاهة) التي كتبها خلال تعافيه من محاولة اغتياله. لم تأت الرسوم مطابقة للنص فلم تكن ترجمة بصرية حرفية لوقائع الحلم المكتوب لأن حجي انشغل بالتنقيب عن مصدر الحلم في الحالة الشعورية التي نبع منها، كأنما يبحث عن الجذور الخفية في أعماق النفس والتي أفرزت صورًا وكائنات ووقائع شكلت روح الحلم، وحين يتوصل لها حجي يستعيد تجربته الشخصية وخبراته بمثل هذه الأحوال، يدمج الحلم العام مع حلمه الشخصي ويقدم المعادل البصري للنص الأدبي.
في مسيرة حجي تجارب مماثلة أثبت براعته في الوصول إلى العناصر البصرية الدالة كرموز فصيحة تعبر عن المعاني عند معالجته للنصوص التي كتبها مصطفى محمود حول تفسير القرآن، ورسومه المصاحبة لقصائد عشرات الشعراء العرب في كتاب (شمال يمين) يهجو تسلط حكم العسكر واستبدادهم.
المصدر: مجلة “الجسرة الثقافية”. العدد 68