‘ممر الضوء’ قصص عراقية تؤرخ لخمسين عاما من الضياع

الجسرة الثقافية الالكترونية
*جمال الشبيبي
في أحيان كثيرة تكون القصة القصيرة أو الرواية بشكل خاص، حاضنة لحقبة زمنية، تؤشر على الجوهري من حياة تلك اللحظة الزمنية، وهذا ما نلمسه في المجموعة القصصية “ممر الضوء” للكاتب والقاصّ العراقي ودود حميد، حيث يتأكد ذلك من رسم الشخصية والحدث وزمن السرد لتكون شواهد أو براهين على تلك الحقبة الزمنية، وهذا النوع من القصص يؤرخ لنزوع أو تسيّد فكرة أو رأي أو أيديولوجيا في فضاء القصة وبالتالي في أفق الواقع المعيش خلال تلك الفترة.
بطولة دون أسئلة
في قصص “البدايات”، المؤرخة في عامي 1968 و1969، يجسد القاص شخصية محورية تعيش أحلامها وتطلعاتها واضعة خصوصياتها العائلية والشخصية قي خانة الإهمال والتجاهل، متحدية الظروف القاسية والمصائر المجهولة التي سيجد نفسه فيها مندفعا وفق قناعاته دون أن يطرح أيّ سؤال أو إعادة النظر في مجمل حياته وقناعاته، أو في جدوى تحدياته وسط فضاءات معادية، وبديلا عن ذلك ترتسم الابتسامات على وجوه عائلته: الزوجة والأم. والسجين في قصة “بابا والقطار” يقول لطفله الصغير الذي يمسك بقيود والده ويحرك السلسلة التي تربط يديه “يا حبيبي دع عنك هذا الحديد اللعين فهو لنا وليس لك”. وتكشف بدايات القصة مظاهر المكان المشاكس الذي قدم منه السجين: طريق صحراوي ذو تلال صخرية سوداء، وكثبان رملية تراكمت على ردائه وشعره، وشمس حارقة اكتوى بها جسمه وهو وسط سيارة مشبكة بأسلاك وصفيح “مانحة الريح القاسية اللهب وشمس القيظ حرية مصادرة استنشاق الهواء”.
وتسرد قصة “الصبي الشجاع” ثنائية البطولة- القسوة، في مداهمة دار من قبل “موجة آدمية متوحشة”، بهدف اعتقال شخصية، وخلال ذلك تظهر الأم جلدة قوية لا تهتمّ بهم، وكأنها على قناعة بطريق ابنها الوعر، أما القصة الثالثة “الرجل والصحراء” فهي مهداة إلى روح الشهيد صلاح الدين أحمد، وهي حكاية مستوحاة من أجواء سجن نقرة السلمان الشهير، تسرد معاناة سجين سياسي حقيقي اسمه صلاح الدين أحمد كان محكوما بالإعدام لانتمائه إلى الحزب الشيوعي العراقي، وقد فضل الهروب من السجن متحديا أهوال الصحراء على أن يسلم جسده طائعا إلى جلاديه.
إن قصص البدايات تكشف ذلك النزوع الإنساني والتحدّي الصارم من قبل شخوص القصص إلى كل الظروف التي تحول بين الشخصية وأهدافها، مع تضحية دون أسف على الحياة الشخصية ومكوناتها، وهي قصص تستقي أحداثها من حكايات آلاف الأشخاص، قد عاشها عراقيون تعرضوا فيها إلى أنواع شتى من العسف والقتل والسجن، من أجل إعلاء مبادئ تنتصر للإنسان باعتباره أثمن رأس مال.
نلاحظ في هذه المجموعة الثانية التي كتبت في بداية سبعينات القرن الماضي، انعطافا واضحا في الثيمة القصصية، وفي تشكّل عالمها السردي، فهي تحيل إلى أصداء الفلسفات العبثية والوجودية التي تسيّدت في العالم العربي منتصف ستينات القرن العشرين، حيث الفردية العالية التي تسم تصرفات وحركة شخوص هذه القصص وسط أجواء القلق أو الأحلام التي تشكل أفق هذه القصص، كما تتسم حواراتها بالتجريد والابتعاد عن الواقع المعيش سواء في رسم الشخصية القصصية وفضاءاتها المكانية والزمانية، أو في استثمار رموز خاصة لتأكيد تأويلات العزلة والفردية والأحلام الخاصة.
وفي قصة “شيزوفرينيا” رحلة بحث عن صورة في خياله “لا يريد التوقف او الإمساك بها”، وتحتشد أمام عينيه مشاهد متنوعة: سيقان جميلة، فساتين ملونة، خصور نحيلة، شعور مسدلة على الأكتاف، أمامه نهر تندفع من سطح مياهه ذرات منفورة، ثم تتجه نحو نظره لتشكل وجه امرأة “تتعب عيناه في رؤيتها واضحة”، لكنه يتجاهل وجه المرأة ليركز على ثدييها الكبيرين، وهذه القصة هي رحلة في اللاجدوى، تسرد فيها علاقات يحكمها منطق الحلم الذي تجتمع فيه علاقات وأزمان غير مألوفة.
الطريق متاهة
في القسم الثالث من هذه المجموعة، قصص تنتمي إلى القسم الأول من المجموعة، منها قصة “ممر الضوء” التي تمنح اسمها عنوانا للمجموعة، والتي تسرد تفاصيل مقرّبة من حياة سجناء وضعوا في سيارات خشبية، أثناء رحلة شاقة نحو سجن صحراوي، هو سجن نقرة السلمان الشهير، والقصة تتمّم سرد معاناة هذه الفئة من الناس الذين فضلوا الإخلاص لأفكارهم وتطلعاتهم على حياتهم الخاصة، باستثمار تقنية تأويل الأحلام لكشف عوالم شخوص القصة، الذين حذفت أسماؤهم وامّحت تفاصيل هوياتهم الشخصية، لتعوّض بتعريف عددي لكل منهم “الرجل الأول، الرجل الثاني” وهكذا، وبتكثيف شديد لأحلامهم التي تجسد إصرارهم على نهجهم ذاته.
وفي قصة “الاغتصاب”، وهي آخر قصص المجموعة، وقد كتبت عام 2007، يبدأ العدّ التنازلي لشخوص المجموعة القصصية، من ذلك الزهو والآمال العريضة التي تعيشها الشخصية القصصية، حتى وهي في أوج حصارها الذاتي والاجتماعي، وصولا إلى قبولها وظيفة “خادم” في بيت الأجنبي “ألن كنك”، الذي يحمل صفات “غول أسود (…) عيناه غائرتان خلف عدستين سوداوين، وأنف يبسط منخريه على جانب وجنتيه”، يحدث ذلك بعد التغيير العاصف في الحياة العراقية بعد 2003، والأكثر أهمية في هذه القصة أن شخصية العراقي “الخادم” متحدّر من أرياف الجنوب، حيث التقاليد الراسخة، ممّا يعطي انطباعا بنمذجة هذه الشخصية كي تمثل قطاعات واسعة من الجيل الجديد من الشباب، الذي أغرته المستجدّات التي أفرزها الاحتلال في الحياة العراقية، وهي رسالة تحذير وموقف ضدّ المحتلين.
المصدر: العرب