من نيروبي إلى هوليود – أميرة الوصيف

الجسرة – خاص
فى نيروبي كنت حافياً , كُلما زاغت عيني إلى الأحذية المُلَونة ذات الرباط , لَكزني “موها” فى مرفقي , والعرق يَطفح من جبينه , وهو يصيح فى وجهي مُشيراً إلى مَكباتِ القمامة ضاغطاً على أسنانه البيضاء ولسانه الأرجواني بينها :
” مُستَعِد ” ؟ , ورغم كَوني لست مُستعداً إلا أن ايماءاتي تَسبق شعوري , لذا أجدني دائماً أقول : ” بلى ” .
أنا و موها أسوأ من كلبين يَختبئان فى نباحهما , نتذمر ونأكل ونبول هنا فى مَكب حي ” ملانغو كوبوا ” العظيم للنفايات .
” وكيف تجرؤ ” ؟ قالها “موها” , ونَتف بيده شَعرات أنفه كما عادته , أجبت بصوت جبان ورعشة أعرفها : “أحب الرقص ” , لطمني وركض بقوة حتى اختفى جسده فى القمامة , ظَننته لن يعود , قبيل أن أُطلِق أولى تنهيداتي , كان ” موها ” جواري مُمسكاً بسلسلة حديدية مُلَوحاً بها فى الهواء , فى حَنق صرخت : ” لا تفعل ” , عصرني بصوته : “لا ترقص ” , قلت : ” لن أرقص ” .
فى الشارع لا وقت للتآخي , وإذا أردت أن تحلم ينبغى أن تنام أولاً , وما من وسائد هُنا , ونحن يسموننا ” شوكورا ” , فِراشنا الأرصفة , وطعامنا النفايات .
وجه “موها ” أبله قَمىء لا يَنفك يُحَرضني على الخوف , يبهر أنفاسي ليل نهار , عيناه الغائرتان تُثقبان رأسي , كُلما رَمقني بنظرة سمعت طَقطقة ضلوعي بأذني .
يُغَمغم الليل فى الساعات الأخيرة , يُشعرك وكأن حُمى الغُربَة قد اشتد وطيسها , وبات كل شىء يُشبه هلاوس الموتى .
كنت أنام فى غطاء سيارة , وأسفل رأسي اناء بلاستيكي لونه أحمر , لطالما أمعنت النظر إليه لكى لا تَفتر حماستي فى الرقص .
أصحو على صوت “موها” , و “عزيزي ” يتبادلان الشتائم , وتلفني رائحة الثوم فأسقط فى غيبوبة قصيرة , أرى فيها جسدي يطير من سطح إلى آخر , تحملني منتزهات نيروبي , ونهرها وطرقاتها بخِفه الراقصين وتُلقي بي على الأشجار , وظهور الحيوانات البَرية وتَسيل موسيقا “الجاز” من كل صوب كرحيق زهرة بَرية فأسبَح راقصاً , ولا أغرق , وأنتشي , ومع كل رقصة يَنبت لي جناح .
عندما أسمعني “عزيزي ” موسيقا الجاز لأول مرة , لم أنطق ببنت شَفه , كانت روحي تنتفض , وقلبي كاد أن يجن , وأما أنا فكنت مُمتلئاً بالوحي , أترنح كلحن حزين ولا أعرف غير أن أرقص وأرقص وأرقص .
” لا تُخبِر موها ” قالها “عزيزي ” فى خوف , أومأت برأسي , وتفحصني لدقيقة ثم مضى .
لم أكن أكره “عزيزي ” لأنه يُسمعني “الجاز ” , ولم أكن أحبه لأنه مثلي جبان .
عندما أشرقت الشمس , كانت النفايات حولنا تَفتح فمها لمزيد من الضوء , ولا عَجب أن تَمِل الجمادات الظلام كما يَمله البَشر .
فتحت عيني , ورمشت كثيراً وأنا أتحسس سروالي , وكانت فاجعتي الكُبرى , وجدته مثقوباً من كل جانب , وسمعت قهقهات الأبالسة الصِغار ” موها ” و” أمانا ” , أما “عزيزي ” لم يكن يضحك .
سَكبت عين “عزيزي ” الصامتة سِرها فى عيني عندما نظرت إليه , وفهمت أن سِر الأمس بات فَضيحة , وأن “موها” لا يَروق له أن يرقص واحداً من الشوكورا , المصفدون رغماً عنهم , لذا قَرر معاقبتي .
أمضيت أياماً فى مَكب القمامة الكبير , لا أبرحه , أملأ بأصابعي السوداء ثقوب سروالي , وأُطَمئن نفسي بأنه لا أحد يرى .
تحدثت معدتي على طريقتها , وأصدرت صوتاً أشبه بالمواء , كنت أعرف لماذا تَموء ؟ أنا جائع , و ” أمانا ” و ” موها ” فى الخارج يضحكون , و” عزيزي ” لن يأتى لأنه خائف , ومعدتي تَثور , ودمعتي تفور ولن أرقص .
فى الصباح , شعرت بجسدي يطير , كنت خفيفاً , خفيفاً جداً, وفهمت أننى أحلم , إلا انه كيف يحلم المرء والعين مفتوحة ؟!
كنت أتقلب داخل المَكب ذات اليمين وذات الشمال حتى أن جلدي التهب , وشعرت بدوار وكأنى أسير على رأسي .
كان أحدهم يحمل المَكب , ويُحاول أن يفرغه من النفايات , أو يُفرغه مني , حاولت أن أصيح لم يسمعني , وبالفعل أفرغني , وهويت على الأرض كالورقة , وسروالي كَشف المَستور .
رَمقني الرجل بإستغراب , وقال لي : ارحل , أدرت ظهري وفتشت عن “موها ” , “أمانا ” و “عزيزي ” , لم أجدهم ولم أجد النفايات .
خطر فى بالي أن الأرض انشَقت وابتلعتهم , ولكن لماذا لم تَبتلعني ؟
تَكورت فى زاوية الطريق , كنت عارياً , ومُتَسخاً , وفجأة غطى صوت الموسيقا سمعي , ولأن عيني مفتوحة لم أكن أحلم , رأيت جماعة من السياح الأجانب يقتربون , والتصق بصري بكاميراتهم ومعداتهم الخيالية , ظننتهم فريقاً من الجن , اقترب مني الرجل ثانيةً وهَتف : ارحل , رَجعت إلى الوراء قليلاً , حينها بدأ العازفون , ووجدت جسدي مُنساباً على الأرصفة , و فى الهواء , ووجدتني أرقص من دون سروالي , من دون أن آكل , ومن دون أن أرتجف
كنت فى حلم بَديع , واستفقت على صوت أحدهم يَربت على قلبي بقولته : لتأت معنا إلى هوليود ؟
قٌلت : هوليود ؟ لم أفهم ماذا تعني , لكني ابتسمت و ذهبت.