«مهرجان القاهرة السينمائي».. مواجهة التحريض بأسئلة السينما

الجسرة الثقافية الالكترونية 

مصاعب كثيرة يواجهها «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» في دورته الـ 36 (9 ـ 18 تشرين الثاني 2014). هذه دورة تأسيسية لمرحلة جديدة. مع هذا، يرفض البعض اعتبارها هكذا لأهداف لا علاقة لها البتّة لا بالسينما ولا بالمهرجان. الناقد سمير فريد يسعى جاهداً إلى منح المهرجان إطلالة مختلفة عن ماضيه القريب، أو بعضه على الأقلّ. لكن، هناك من لا يرى في خطة عمله شيئاً إيجابياً البتّة. هناك من يشنّ حملات صحافية وإعلامية لا تُحتَمل. يُطلق شتائم لا تليق به، ويوجّه اتّهامات لا أسس لها. يقتنص وقوع أخطاء كي ينقضّ على مرتكبيها، ويتجاهل المناحي الجيّدة كلّياً. صحف ومجلات عديدة تخضع لاعتبارات ضيّقة في مقاربتها كلّ خطوة فعّالة ومُثمرة ولائقة بالفن السابع وصانعيه، فتتوقّف عند سلبيات يعانيها المهرجان ونشاطاته، نابعة أساساً من سطوة فساد قديم في أجهزة تابعة له، أو في مؤسّسات رسمية ترعاه فتتسلّط عليه.
تساؤلات
التغاضي عن السلبيات ليس عملاً نقدياً سليماً. لكن التوقّف عندها فقط لا يليق بسجال نقدي إن أراده أحدهم. السجال النقدي ضروريّ للغاية، شرط أن ينبثق من رغبة حقيقية في تصويب مسار، أو في تفعيل عمل، أو في تحرير إدارة ما من كلّ ثقل قاتل. السجال النقدي السليم يُلاحظ الإيجابيّ كما السلبي، ولا يعني أبداً شنّ حملات تحريضية. الملاحظات عديدة، لكن شنّ حملات كهذه تتركز على شخص معيّن لأنه ارتكب «معصية» التجديد مسألة مثيرة لاشمئزاز ونفور، خصوصاً أن بعض الذين يقومون بحملات كهذه ينطلقون من معطيات ساذجة ووقائع سطحية: أن تشعر ممثلات عديدات ببرد شديد في حفلة الافتتاح المُقامة في قلعة محمد علي، علماً أنهنّ ارتدين ملابس «شبه عارية» أصلاً، لا يعني أن اختيار هذا المكان جُرمٌ يُحاكَم سمير فريد وإدارة المهرجان عليه. عدم عرض فيلم في افتتاح الدورة الجديدة قد يكون خطأ، لكنه بالتأكيد ليس جريمة. الأخطاء عديدة في الحفلة نفسها، خصوصاً في ما يتعلّق بتقنيات الصوت والإضاءة. لكن الأخطاء تُناقَش، بدلاً من أن يُرجَم سمير فريد وإدارة المهرجان بسببها. اتهام الفرنسيّ جاك لانغ بقضايا اغتصاب أطفال في بلده أو في المغرب لا يعني أن اختياره لتكريمه في القاهرة بمنحه «جائزة نجيب محفوظ» خطيئة مميتة يُحاسَب عليها سمير فريد وإدارة المهرجان بـ«الشنق» المعنوي. هناك فرقٌ كبير بين اتّهامات كهذه لم تُبَتّ قضائياً بعد، وحراك ثقافي للوزير السابق والرئيس الحالي لـ«معهد العالم العربي في باريس» على مستوى تفعيل التواصل المعرفي بين فرنسا ـ أوروبا ومصر ـ العالم العربي. فهل تُمنع أفلام رومان بولانسكي مثلاً من العرض في صالات القاهرة لأنه متّهم منذ العام 1977 بالتحرّش بقاصر، أو تُلعن أعماله البديعة إلى الأبد؟ هل نتغاضى عمّا فعله جوليان أسانج (ويكيليكس) بفضحه أجهزة وأنظمة وشخصيات «تغتال» الناس يومياً بشتّى الوسائل، لاتهامه باغتصاب امرأتين؟ هذه جرائم يُحاكَم عليها مرتكبوها عبر القضاء. أما نتاجاتهم، فخاضعة لنقاش نقدي.
هناك ما هو أسوأ وأخطر: تحريض على التصفية المعنوية (إن لم يكن على التصفية الجسدية أيضاً) لسمير فريد وفريق عمله في إدارة المهرجان، عبر نشر ما يُسمّى بـ«مقالات» مسمومة وحاقدة تقول نقيض الواقع. هذا أمرٌ منبوذ ومرفوض ومؤذ، يُفترض بالمتأذين منه التقدّم ببلاغات قضائية ضد كاتبيها وناشريها: هناك من اتّهم إدارة المهرجان بعرض أفلام تسخر من الأذان وتهين الدين الإسلامي، في حين أن هذه الأفلام تكتفي بتبيان حقائق يُدركها كثيرون ويُحاربونها، كالقول مثلاً إن متطرّفين وأصوليين ومتزمّتين يخرجون من الجوامع إلى القتل والذبح.
ليست دعوة إلى التغاضي عن أخطاء، بل إلى نقاش نقدي جدّي، وإن كان حادّاً أحياناً. لكن تغليب المصالح الفردية وتنشيط لغة العداء والكراهية، يعكسان جوهر الذين لا يتقنون حواراً آخر غير الشتم والتقريع والصراخ. التغاضي المُطلق عن الخطوة الإيجابية المتحقّقة بفضل جهد واضح لسمير فريد وفريق عمله، والمتمثّلة بإعادة وضع «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» في الطريق المطلوبة لتحريره من وطأة التاريخ القاتل، وللعمل على استعادة مكانته السينمائية والثقافية والمعرفية في العالمين العربي والأجنبي، التغاضي هذا يكشف نيّات حاقدة لا ترتبط بالسينما وفنّها، ولا بالسينمائيين وأحوالهم وأساليبهم الإبداعية وأفكارهم ونتاجاتهم، ولا بالمُشاهدين وأهوائهم وأمزجتهم المنخرطة في صلب الحكاية الأصلية: السينما، ولا شيء غيرها. المؤكّد أن سمير فريد والعاملين معه يؤسّسون، بتنظيمهم الدورة الـ 36 هذه، مرحلة جديدة بروح تجديدية متواضعة وهادئة. ارتكب هؤلاء أخطاء متفرّقة هنا وهناك؟ هذا صحيح. لكن هذا الأمر نفسه يستوجب نقاشاً لا تحريضاً وشتماً.

رحلات سينمائية

هذه أجواء حاضرة في القاهرة منذ الإعلان، قبل أسابيع عديدة على إطلاق الدورة الجديدة، عن تكليف سمير فريد إدارة مهرجان ينوء تحت ضغط الفساد والسمعة السيئة والاهتراء الداخلي والتفكّك الثقافي والمعرفي. صراعات كهذه تقليدية في بلد يعيش فساداً واهتراء وتمزّقاً في شتّى أمور الحياة اليومية. غير أن المنحى الحاقد والمتطرّف في مواجهة أخطاء عديدة يشي بما هو أكبر واخطر من مجرّد «قراءة أخطاء».
الإيجابيّ حاضرٌ في مسائل متنوّعة: الاجتهاد في إنقاذ المهرجان من موته السريري. أفلامٌ تستحق المُشاهدة لإثارتها متعة العين والروح والوعي. إعادة تفعيل إصدار الكتب، وهذا بحدّ ذاته مهمّ لأنه يؤكّد أن للمهرجان أدواراً ثقافية لا تقف عند عرض الأفلام ومناقشتها. من الأفلام البديعة، هناك «القطع» للألماني التركي فاتي آكين، و«فقدان الذاكرة الحمراء» للصيني وانغ زياشواي، و«باب الوداع» للمصري كريم حنفي. مسألة الكتب محتاجة إلى وقت لقراءة الإصدارات (13 كتاباً) وتبيان مضامينها.
«القطع» ميلودراما انفعالية عن أحد الفصول الإنسانية القاسية الناتجة من جريمة العثمانيين بحقّ الأرمن. الفيلم الصيني ملحمة سينمائية راقية عن معنى الذنب والغفران والخيط الواهي بين الوهم والواقع، وبين الذاكرة ونسيانها أو عدم نسيانها، وبين الماضي والحاضر. كريم حنفي شاب مصري يُقدِم، في خطوته الإخراجية الأولى، على خوض مغامرة خطرة، متمثّلة باختيار التجريب نمطاً، وبالغرق في الذاتيّ مضموناً، وفي دفع الصورة إلى أقصى حدّ ممكن من البوح.
أفلام كهذه محتاجة إلى مساحة أوسع: فاتي آكين يبتعد عن كلّ إدانة أو اتّهام، ليُسرف في ميلودرامية أب أرمني ينجو من الذبح، ويبدأ رحلة بحث مُضن عن عائلته. وانغ زياشواي يرافق عجوزاً في رحلة بحث ثقيل الوطأة عن محاولتها التحرّر من ذنب قديم، وعن التطهّر من جرح روحي عبر الغرق في ضجيج الثأر والخوف والقلق. كريم حنفي يتوغل مع ابن وأم وجدّة في رحلة بحث داخل أروقة الحزن والخوف عن أسئلة الحياة والموت والعلاقات العائلية والإنسانية. أفلام كثيرة أخرى لا تقلّ أهمية. هذا جزء مطلوب من مهرجان دولي.

……………

السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى