ناقد عراقي يقرأ النصوص العربية بمنهج سيميائي

عواد علي
منذ نحو عشر سنين، اتجه الناقد والباحث العراقي، المتخصص في الفلسفة، رسول محمد رسول إلى تمثيل المنهج السِّيميائي في قراءة أعمال سردية إماراتية وخليجية وعربية تباعا، موظفا آليات هذا المنهج، وما يتأسس عليه من مفاهيم ورؤى فلسفية، لتحليل أنماط العلامات في النُّصوص السَّردية المتخيَّلة، فالمشتغل في التحليل السِّيميائي، حسب رأيه، لا بد أن يكون ذا خلفية فلسفية، لأن المعرفة السيميائية معرفة فلسفية بامتياز، مثلما هي نقدية، سواء ركّزت نظرها على الكيفية التي تولد فيها العلامة داخل الذهن، أو درست أصل العلامات ومنشأها في العالم الموضوعي/ الخارجي أو الداخلي للإنسان بحكم التلازم الحقيقي بين إنتاج الدلالة في المعرفة العامّة والمعرفة الخاصّة. وهذا ما جعله قريباً من روحها، وهو الذي أمضى سنين طويلة باحثاً في حقول الفلسفة الألمانية، ابتداء من دراسته في مرحلة الماجستير لـ”نظرية المعرفة في فلسفة كانط”، مروراً بدراسة “الأنظمة الميتافيزيائية عند الفلاسفة الألمان في القرن التاسع عشر”، وصولاً إلى دراسة الفلسفات المعاصرة في عدد من كتبه، مثل “فلسفة العلامة” و”ما الفيلسوف”، و”كانط في ذاته”، و”العلامة: الجسد والاختلاف”.
مدرسة باريس
ولج رسول إلى عوالم السّرد الروائي بمنظور سيميائي في كتابه “الجسد في الرواية الإماراتية”، الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث عام 2010، ثم في كتابه “العلامة والتواصل: في سيميائيات السرد القصصي الإماراتي”، الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2011، وذلك بعد كتابيه النقديين “صورة الآخر في الرواية الإماراتية” و”تمثيلات الآخر في الرواية الإماراتية”، الصادرين عام 2009.
يُلاحظ في تمهيدات رسول محمد رسول النظرية لتحليل النصوص السردية أنه يميل إلى المدرسة الفرنسية في النقد السيميائي، نسأله إن كان يجد هذه المدرسة أخصب من المدرسة الإنكلوسكسونية، ليجيبنا “وجدت أن مدرسة باريس السِّيميائية هي الأقرب إلى تطلُّعاتي، فاصطفيت نظريتها لما فيها من ثورة حقيقية في مجال الدراسات السَّردية والحكائية، وكذلك انتقالها القرائي من مجرّد الانطباع العابر إلى التحليل المحايث للنّص، وللتجربة السردية والحكائية فيه، فضلاً عن رؤيتها الشمولية لتجربة المعنى النصي كونها توسّلت ضميمة من المفاهيم القرائية التي تبدو جديدة، وإن كانت مستلّة من المدارس البنيوية على تعدّدها منذ ظهورها حتى وصلت إلى أقطاب هذه المدرسة الذين نخلوها على سبيل إعادة التجديد والبناء”.
النصوص القصصية الإماراتية كثيرة، وبإزاء هذه الوفرة لا يسع الباحث أو الدارس إلا الاصطفاء، وتلك مهمة محرجة
عن المفاهيم الإجرائية التي استعان بها من هذه المدرسة في قراءته للنصوص السردية التي اختارها، يقول محمد رسول “استعنت بجملة مفاهيم منها: البرنامج السَّردي بكل تنويعات اشتغاله، كالبرنامج السَّردي الأساسي، والاستعمالي، والرئيسي، والملحق، وبقية المفاهيم الداخلة في فضائه، مثل: المسار السَّردي، والصوت السَّردي، والملفوظ السَّردي، ومفهوم الفعل من حيث وجوبه ومعرفته وقدرته أو استطاعته وإرادته، والفاعل، وفعل الفاعل، والتحوُّل الاتصالي والانفصالي، والعامل، والدور العاملي، والإنجاز، والكفاءة، والتحريك، والجزاء، والمدار الكبير، والمدار الصغير، إضافةً إلى مفاهيم أخرى، مثل: فاعل الحالة، وملفوظ الحالة، وملفوظ الفعل، والتحفيز، والتحريك، والأهليّة، والصراع، والتواصل الذي يفترض وجود المُرسِل والمرسَل إليه داخل الحكي، وحالة الاتصال والانفصال، والأفعال التواصلية، والعلامات الجسديّة، والأهواء، والمربّع السيميائي، وبرنامج التواصل، وبرنامج التضاد، والتناص، والسَّارد بكل تنويعات ظهوره واشتغاله، والمسرود، والمسرود له، والبنية العميقة، والبنية السَّطحية، وغيرها من المفاهيم”.
قراءات سيميائية
يرى الباحث أنه ليس لكل هذه المفاهيم أن تكشف عن نفسها كملفوظات مفتاحية في سطح النصوص المقروءة، فبعضها، كما يقول، تكشف عن نفسها كملفوظات مفتاحية، وبعض المفاهيم الأخرى مندسة في وعي القراءة، في قاع شعورها كأدوات قراءة وتحليل وفحص للنص المقروء نقدياً. وهنا تكمن عظمة “مدرسة باريس السيميائية”، يعني قدرتها على الكشف عن الحراك الداخلي للمعنى النَّصي بكل أنماط حضوره
المسرودة، وعبر كل المشاركين في حركته الحدثية، كالفضاء والزمان، والفاعلين أو الممثلين أو الذوات، ناهيك عن بقية العوامل الأخرى.
نسأل ضيفنا إن كان ثمة نقاد عرب غيره درسوا التجارب السردية في الإمارات من منظور سيميائي، ليقول “قُدمت بحوث ومقالات قصيرة عنها، لكن لم يُقبل أحد الباحثين أو النقاد على دراستها بكتاب مستقل، ومن منظور سيميائي محدّد، كما أقبلتُ أنا في كتابيّ ‘الجسد في الرواية الإماراتية‘ و‘العلامة والتواصل‘. وبذلك أعتقد بأنني قدّمت منجزا قرائيا له فضل المغامرة في هذا الحقل القرائي الجديد بالمنطقة العربية والخليجية”.
وعن اختياره للنماذج القصصية الإماراتية التي قرأها في كتابه “العلامة والتواصل”، يكشف محمد رسول أن النّصوص القصصية الإماراتية كثيرة، وإزاء هذه الوفرة لا يسع الباحث أو الدارس إلا الاصطفاء، وتلك مهمة محرجة. لكن عندما يكون المنهج القرائي واضحا، تكون المهمة أيسر، فما يعطيه النص السّردي من تمثيل علاماتي مسرود، هو المعيار الذي يدخله إلى فضاء التحليل السِّيميائي.
يتابع الباحث “عندما كنتُ أنظر إلى العشرات من المجموعات القصصية الإماراتية التي في حوزتي، حرصتُ على مواكبة البُعد الزمني، فبدأت بأوائل هذه المجموعات الصادرة، وصولاً إلى آخر ما صدر حتى عام 2010، أي ثلاثة عقود ونصف العقد من الزمن الإبداعي. وقد حرصت ذائقتي القرائية والتحليلية على متابعتها لكي أضع الباعث التطبيقي أمام مسؤولية جديدة تكمن في تقديم مشهدية قرائية، وبمصباح سيميائي، توازي المشهدية السّردية التي كانت تتراكم تباعاً عبر السنين، ولكي أُقدّم أيضاً عنواناً قرائياً جديداً للمكتبة النَّقدية الإماراتية والعربية يوازي المكتبة الإبداعية. تلك كانت طموحاتي التي أردت تحقيقها بعيداً عن القراءات العليلة، أو ما أطلقت عليه في مقدِّمة الكتاب بـ‘النقد العليل‘، الذي وصفته بالسريع، والعابر، النقد غير المقيم في بيوت النُّصوص السَّردية على نحو تلقائي وتعايشي مسالم، وعلى نحو متناص مفعم بالأمل المعطاء”.
ويلفت الناقد إلى أنه كانت لديه رغبة عارمة في أن يتوسع كثيراً في انتقاء القصص التي سيدرسها، لكنه آثر الاكتفاء بخمس عشرة قصة لعدد من الكتاب.
يقول محمد رسول “كان بإمكاني أن أقود التجارب النَّصية إلى الواقع-الواقعي الذي عاشه أصحاب هذه التجارب، بكل ما فيه من مرجعيات مجتمعية وأخلاقية وأهوائية لكي أفكَّ شفرات تلك التجارب، لكنني لو فعلت ذلك لخرجت من عباءة الدرس السِّيميائي الذي يتشبَّث دائماً بالمعنى النَّصي، كونه الفضاء الذي يضمن سلّة دسمة من القيم النصية التي يمكن أن تُقرَأ. ومع اقتناعي بأن كل نص متخيَّل يسرّب دائماً الواقع-الواقعي إلى مظانّه، فقد اجتهدت في البقاء عند الواقع المتخيَّل بكل ما فيه من قيم مجتمعية، وأنماط عيش، وعلاقات صراع وتواصل، ناهيك عن فضاءي المكان والزمان، وجُملة تخارجات الهوية الذاتية والوجودية المسرودة عبر الأحداث والفاعلين المشاركين في القصص المدروسة”.
(العرب)