نصف قرن من السينما التونسية في كتاب

أشرف القرقني

يعدّ كتاب “خمسون عاما من السينما التونسية” محاولة جادة لخلق مدونة لعلها الأولى من نوعها في مجال السينما، إذ تتجه في خطّين متباينين: الأوّل هو خط تاريخي يشمل امتدادا ومراكمة لحضور السينما في تونس منذ إرهاصاتها التأسيسية إلى استقرارها وتطورها. أما الثاني فهو يحاول أن يتجاوز التأريخي إلى تأمل المشروع السينمائي التونسي صناعةً وآثارا فنية.

الكتاب، صدر منذ أيام قليلة تزامنا مع حلول الدورة السابعة والعشرين لمهرجان قرطاج السينمائي، عن المركز الوطني للسينما والصورة. وهو كتاب جماعي عربي-فرنسي أشرف على إخراجه وضبط مادته الناقد السينمائي والكاتب الهادي خليل. وقد توزع على 559 صفحة بين قسميه العربي والفرنسي.

يضمّ الكتابُ مشاركات عديدة لمساهمين بارزين في المجال السّينمائي التّونسي نذكر من بينهم المنتج نجيب عياد، والمخرج والناقد السينمائي فريد بوغدير الذي كانت بدايته في الإخراج مع فيلم “حلفاوين أو عصفور سطح”، وحسن عليلش مدير مهرجان سوسة الدولي لفيلم الطفولة والشباب، والكاتب المسرحيّ والنّاقد السّينمائي يوسف البحري.
شذوذ محمود

توزّعت أقسام الكتاب: أولا على مرحلة التّأسيس: البيئة والتطلعات والعوائق، ثانيا نوادي السينما وحركة السينمائيين الهواة، ثالثا أفلام الريادة الأولى، رابعا قاعات السينما التونسية بين الأمس واليوم، خامسا مكاسب أجهضتْ، سادسا مغامرو: الإنتاج والتّوزيع والاستثمار في قاعات السينما والإخراج، سابعا النقد السينمائي، وأخيرا قراءات فيلميّة ومشكلات السّينما التّونسيّة ومآزقها.

يبدو جليّا من خلال قائمة الأقسام ذلك المسار الذي نظم الكتاب منهجا وتصوّرا. هناك سعي واضح لتقديم عصارة التجربة السينمائية التونسية وتوفير مدونة للبحث فيها والاطلاع عليها من جوانب مختلفة تاريخية ومعاصرة في آن واحد، وفنية ونقدية ولوجستية. يقول الهادي خليل في المقدمة “يبدو هذا الإصدار مبدئيا وظرفيا. لكن في محتواه، وفي روحه وفي مقاصده، ليس الأمر كذلك بما أنه يطمح إلى اغتنام هذه المناسبة بغية التفكير في مسار السينما التونسية ككلّ، مستعيدا مكاسب ماضيه، ومتنبّها إلى مستجدّات حاضرها وملابساته، ومتلمّسا آفاق مستقبلها ووعوده”. إنه كتاب قلما عملت الثقافة التونسية على استحداث ما يشاكله في مجالات أخرى بمثل هذه القدرة على تكثيف نصف قرن في دفتين، عسى ألا تُطوى هذه الصفحات في الرفوف بعيدا عن السينمائيين الشباب هواة أو محترفين والباحثين في المجال والمهتمين به.

إنّ نصف قرن من الممارسة السينمائية التونسية المحتفى به في الكتاب، يستندُ إلى نقطة انطلاق ممثلة في فيلم “الفجر” الصادر سنة 1966 من إخراج عمر الخليفي. ولذلك كان من المنطقي أن يولي الكتاب لهذا المخرج العصامي حق تشريفه والاهتمام بتجربته، الأمر الذي قلما حدث في التظاهرات الثقافية في تونس؛ إذ اطّرد أن يقترن الحديث عن فيلم “الفجر” بنقائصه الفنية وتعثره في خلق خطاب سينمائي متماسك.

وحتى إن تمت الإشارة إلى السياق التّاريخيّ ذاك بما يتضمنه من عوائق، فإنّ الحديث عن عمر الخليفي لطالما غاب عنه ذلك الاحتفاء الذي يستحقه صاحبُ مدونة فنية تأسيسية. ويبدو أن المشرف على كتاب الخمسينية لم يغفل هذه الضرورة. وقد خص تجربة عمر الخليفي بفصل كامل من فصول القسم الأوّل عنونه بـ”عمار الخليفي ملء قلوبنا” جمع فيه حوارات مع المخرج كان اختتمها بمقال له يدرس خصوصية تجربته إذْ كانت آخر فقراته موسومة على النّحو التّالي: “أهمية الفعل التدشيني”.
حضور النقد

اهتمام الكتاب بمختلف المجالات التي تتعلق بالقطاع السينمائي التونسي من جمعيات وإنتاج وتوزيع وقاعات وتكوين وتدريس لم يمنعه من أن يتضمن قسمين طريفين في سياقه هذا؛ القسم الأول خصص للنّظر في النقد السّينمائي من خلال ثلاث تجارب متباينة. تتمثل الأولى في تجربة أندري بازان، الناقد الفرنسي الذي يعتبر الأب الروحي لحركة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية وأحد مؤسسي مجلة “دفاتر السينما” الشّهيرة. أما الثانية، فهي تجربة لم يعتد القراء التعامل معها من هذا المنظور وأعني تجربة الشاعر والكاتب التونسي الفرنسي عبدالوهاب المدب. والثالثة هي تجربة فريد بوغدير الذي استهل علاقته بالسينما ناقدا، ثم مر إلى الإخراج.

بالإضافة إلى ذلك، احتوى الكتاب قراءات فيلمية لتجارب رائدة في السينما التونسية مثل عبداللطيف بن عمار والنوري بوزيد. لكن النصيب الأوفر على الأرجح، جاء في شكل مقالتين كتبهما المسرحي والناقد السينمائي يوسف البحري على نحو إبداعي عن فيلم “على حلة عيني”، لليلى بوزيد (إنتاج 2015)، وفي ذلك ما يجلي عزم المشرف على الكتاب على أن يصل الماضي بالحاضر ويفتحهما على إمكانات وآفاق جديدة. هذا الفيلم هو الأول لمخرجته الشابة. تدور أحداثه في صيف 2010 أي قبيل أحداث الثورة التونسية أو ما سيسمى كذلك، ويتّخذ من موضوع الحراك الشبابي فنيا وسياسيا موضوعا رئيسيا له.

يبدو أنّ الهادي خليل يتيح لصاحبة “على حلة عيني” ما لم يتحه المشرفون على البلاد لشخوص فيلمها وهم مجموعة موسيقيين شباب حالمين. يفتحُ عينها -ومن خلالها عيون المخرجين الشباب في تونس- على نقد من نوع آخر، نقد يتجه إلى عمق خطابهم الفني، يقيمُ في طبقاته الأعمق، ويخرج منه ممتلئا بإمكاناته مُشيرا إلى آفاقه البعيدة.

يقول يوسف البحري في خاتمة مقاله الأول عن الفيلم “إنه فيلم يريد فهم منعطف تاريخي عاصف بالعودة إلى الأسباب الاجتماعيّة العميقة وليس السطح السياسي. أفردت ليلى بوزيد فيلما للحظة ما قبل الانفجار الاجتماعي والسياسي في تونس سنة 2011. وطرح السؤال بعد خمس سنوات يعني أن الانفجار ما زال في بدايته. هل يعني أن المخرجة على عتبة مشروع سينمائي خاص بها؟ هل عبارة صيف 2010 (في الفيلم) هي إشارة في ترتيب تاريخي منهجي لسلسلة أفلام مخطط لها؟ أم ممكنة؟”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى