[ هذيان . نواقيس القيامة ] رواية المسكوت عنه.للكاتب محمد جعفر

خاص (الجسرة)

ولد عبد الله عبد اللطيف

يفتح القارئ الكتاب ومن أولى الصفحات يبدأ بالبحث عن سر هذا العنوان الغريب ” هذيان. نواقيس القيامة” حتما إنه لعنوان مثير للفضول وهذا شيء إيجابي في عمل من النوع البوليسي. قلنا إذا أن القارئ قد بدأ في قراءة الأسطر الأولى ولعل بعضا من القراء المتمرسين في عالم الأدب سيبحث عن ما يجعله يواصل القراءة وربما محمد جعفر إسم لم يسمع به من قبل ولكن عالم الأدب لا يعترف بالأسماء. ولكن أقولها صراحة إن هذا الكاتب الذكي إذ ارتكب جريمة خيالية تشابكت خيوطها وشخصياتها على الورق . دعونا نغوص قليلا في الأحداث ونستعرض بعضا مما جاء فيها دون مبالغة أو مجاملة.
بناء الرواية في مجمله ليس اعتياديا فالتقنيات التي اعتمد عليها الكاتب زادت من قيمة العمل الروائي مما جعل الحبكة ترتقي إلى درجة لا يمكن للقارئ معها أن ينفك عن الأحداث السريعة التي نسجها الروائي محمد جعفر ببراعة فائقة. إذ وظف تقنية العلبة الصينية باحتراف والتي تتولد من القصة الرئيسة، مجموعات من القصص الأصغر في متوالية تتلاحق وتتداخل نحو ما هو متناه في الصغر. ويكون الاعتماد حينئذ على طاقة المخيلة التي تستفيد من تجارب الحياة الصغرى وتزجها في العمل.(1)- هذه التقنية استعملتها شهرزاد قصد إغرا شهريار بمتابعة الحكايات لإطالة الليالي حتى يمتنع عن قتلها في نهاية القصة و هي نفسها التقنية التي استعملها ستيفن كينغ في عمله الروائي الشهير ميزري وقد وظفها محمد جعفر أيضا في هذه رواية ” هذيان نواقيس القيامة ” محققا إثارة خفية غير معلنة لا تظهر إلا في نهاية الرواية إذ يتلقى كاتب الرواية وهو كاتب فاشل مخطوطا من شخص مجهول كهدية لينشرها بإسمه. الشيء الغريب أن الشخص المجهول يستهل قصته بالكشف عن هويته نوعا ما فهو محرر في جريدة المورستاغا وأشار إلى أنه كتب مقالتين أو أكثر عن الحادثة . وهنا أتساءل ألم يعد صاحب المخطوط شخصا معروفا لدى القارئ. إذن هذه إحدى هفوات الكاتب في الرواية ولكن ما جعل العمل يستحق القراءة حقا هو الأسلوب الرائع واللغة الراقية في عدة مقاطع من الرواية. فبعد الرسالة المثيرة يبدأ نسق آخر من السرد إذ تبدأ المخطوطة من نهاية الأحداث عكس السرد الكلاسيكي – تقنية الفلاش باك- أين يحدثنا الكاتب عن فتاة وجدت مقتولة في شقتها تدعى” مريم ” لتنقلب الأسطوانة فجأة في الفصول التالية و تبدأ الأحداث من البداية حيث يعرف الراوية بكل شخصية على حدى وتتصرف كل من هذه الشخصيات بأسلوبها الخاص وفق تصرفاتها السيكولوجية . فنلاحظ أثناء القراءة كيف يتصرف المحقق رشيد لزعر مع زملاءه باستعلاء ليحافظ على هيبته وفي نفس الوقت نلاحظ غياب المبادئ لهذه الشخصية وهو ما تعمد أن يظهره محمد جعفر في كل فصل من الرواية وهو بمثابة نقد للمجتمع الجزائري بصفة عامة.
بعد توغل القارئ في القصة يحاول معرفة سر هذه الجريمة وهي برأيي مصيدة استعملها الكاتب محمد جعفر فقط ليجعل القارئ يستمر في القراءة فالمدقق في العمل قد لا يجد ما ألفه في الروايات البوليسية والتي تتميز بالعنف والإثارة والغموض المخيف. ولكننا هنا إزاء رواية من نوع آخر. رواية واقعية تنقد المجتمع المنغلق على نفسه وتتكلم عن المسكوت عنه بقالب بوليسي. فالطابوهات المحرمة كلها جاءت في الرواية كالزواج العرفي والجنس والطلاق ثم الفساد والعشرية السوداء من فترة الإرهاب المظلمة وصولا إلى الربيع العربي والاحتجاجات التي كادت تعصف بالجزائر أنداك.وقد يتساءل البعض عن جدوى ذكر الأشياء القبيحة في الواقع كالزنى مثلا أو الشر أو الأنانية ولكن جمال الفن ليس كجمال الطبيعة إذ الفن هو الذي يسمح لنا بأن نحكم على الواقع ولا يمكن تفسير جمال العفن إلا بالرجوع إلى الفن نفسه. فقيم الجمال هي أولا وبالذات قيم صناعية technique وليست قيم جمالية (2)
يستمر السرد في الرواية بطريقة سلسة وعفوية ويقوم الكاتب بتجميد الزمن والعودة إلى الوراء لعرض ماضي الشخصيات وتطور الأحداث في زمن مشترك وهنا يكمن التشويق الذي يجر القارئ ليتواطأ معه في ربط خيوط القضية معا واكتشاف القاتل الحقيقي للضحية ” مريم ” ابنة ” بومدين العربي ” وعشيقة القاضي ” منصور بن عباد ” والتي كانت زوجة سابقة ” لفوزي العياشي ” .أما الناقوس الأخير وهو ” موحد جابر ” هذه الشخصية الغامضة والتي ظهرت في آخر الرواية تجعل من المتتبع للأحداث يرتبك قليلا نظرا لغموض هذه الشخصية الغريبة . ” موحد جابر” روائي مغمور يتعرف على مريم وتنشأ بينهما علاقة غرامية ليصبح آخر عشاقها بعد حادثة مقتلها الغامضة. هذه الشخصية القلقة تدعى في علم الاجتماع بالشخصية الهامشية أو الغريبة إذ يقيم في المجتمع لكنه يظل على الهامش فلا يدرك آلياته الحميمية ويبقى على نحو ما خارج الجماعة مما يمنحه على الرغم منه قدرا أكبر من الموضوعية.(3) تظهر اكتئابها خلال سياق السرد ففي إحدى العبارات التي يقولها كاتب المخطوط على لسان ” موحد جبار” ( ما الحياة إلا مصيدة لعينة تبدلت قطعة الجبن فيها، وصارت بمرور الأيام أي شيء أدنى ) هكذا يوهمنا في الصفحات الأخيرة أن هذه الشخصية ستنتحر لتتخلص من أردان الحياة ومتاعبها ولكن…
على الرغم من جمالية النص وقوة أفكاره إلا أن عنصر التشويق كان غائبا نوعا ما إذ يتسم النص في بعض أرجاءه بالجفاف والنظرة الحيادية للأحداث. إذ لم يكن للرواية من ذروة يمكن أن نجعلها محورا للقصة ، هناك فقط مجموعة من الخيوط المتراكبة التي لا تنفك تفضح عن قاتل الضحية “مريم “في آخر الرواية إذ كان الرابط الوحيد بين هذه الشخصيات هو ” مريم “وحدها لذلك لم نرى التشابك بين مسار هذه الشخصيات إلا من زاوية واحدة وذلك ربما ما حرم القارئ من الاستمتاع أكثر بالعمل . إلا أن ذلك لم ينقص كثيرا من قيمة رواية ” هذيان ” نواقيس ألقيامة ” بل أشرنا فقط إلى عنصر جانبي ارتأينا أنه لو أضيف للرواية لكانت أروع وأجمل. ومع نهاية الأحداث ينتظر القارئ كالعادة وبفارغ الصبر عما ستسفر عنه النتيجة النهائية للتحقيق وإذا بنا أمام نهاية مفتوحة ولغز لا يزال ينتظر التأويل من قراء آخرين لهذه الرواية الرائعة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى