هل نحتاج لقارئ مقاوم؟

- هل نحتاج لقارئ مقاوم؟ - 2025-10-19
- الخوف من الجمال - 2023-11-30
- إلى المتمرد زياد رحباني - 2022-04-24
نعترف بأن العالم العربي يعاني من قلة القراءة، بل من شحها، نعترف بأسى وحزن، ثم نمضي في طريقنا.
لو كنت مثلي من رواد المقاهي وشاهدك أحدهم تقرأ سيقول جملة مكرورة: لم أقرأ كتابًا منذ سنوات، سيقول واحد آخر: لا أقرأ الصحف ولا الكتب، لكنني أقرأ عبر الفيسبوك، ومهما كانت حسرتك فقد تجد شعاع نور، ربما تشده هذه القراءة مرة بعد مرة إلى التعود وربما تشده إلى صفحات كتاب شاهد الناس تتحدث عنه.
يدور كل ذلك أمام عينيك وفي ذهنك، تتطاير أمام أذنك جملة: “أمة اقرأ لا تقرأ”، وهي جملة صحيحة لكنها ترد في سياق مختلف، وصاحبها يذهب بها إلى شارع واحد فقط ويقصد معنًى واحدًا يخصه هو وأتباعه.
في كتابه الفاتن «وأنقذتنا الصفحات» الصادر عن دار روافد، يتجشم الكاتب والباحث المصري باسم الجنوبي عناء إظهار قيمة الكتاب والمعرفة في حياة البشر، بما بهما من إثراء للعقل والروح، وأولًا وأخيرًا طرح الفعل الحقيقي المرتبط بالبشر بأن يكونوا جديرين بإنسانية تقوم على التحضر والوعي بعالمهم، بل بأنفسهم أولًا، وأن خصمهم الوحيد هو الجهل المسلح بآلاف الوسائل ليحمي وجوده ويرسي ترسانته، فالجهل لديه ملايين الجنود يحاربون معه، وأخطر أسلحته قدرته على التخفي مرة بثوب العادات والتقاليد، ومرة بثوب الدين والقيم ومرة بثوب ادعاء العلم والمعرفة!
ربما ما سبق خلق سؤالًا حارًا وضروريًّا: هل القراءة فعل مقاومة؟
منذ سنوات خلت، سرت عبارة لنزار قباني في الفضاء ووصلت:” إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب”، هنالك جهل يعلم خطره من اكتملت بصيرته، أما الجاهل فينعم بجهله.
يقدم الكتاب للقارئ، أي قارئ، روشتة تضع أمامه عناوين الكتب التي تعنى بكل المجالات وصولًا للطبخ باعتبار أن الطبخ ثقافة بل ثقافة بارعة، لكن يضمر داخله أيضًا البحث عن قارئ مقاوم، سلاحه الكتاب، سائلًا إياه: هل هو سلاح يقتل الجهل أم يقويه؟، يضيع به وقته في المعركة أم يمنحه رؤية أوضح لها، فالكتب تعني الكلمات مستشهدًا بمقولة علاء الديب: “الكلمات هي الكلمات، تصنع الغدر والخيانة والتضليل والوشاية، وهي الحب والنبالة.”
“اقرأ أي شيء”، عنوان كتاب معروف لأنيس منصور، يدعو فيه إلى أهمية القراءة في أي شيء، فالمعرفة تطير بأجنحة عديدة وكل ما تقرؤه يصب في نهر وعيك سواء انتبهت أم لم تنتبه، يقول الجنوبي في: “وأنقذتنا الصفحات” لو كان أنيس منصور بيننا الآن لبدّل العنوان أو سحب الكتاب من الأسواق في ظل هوجة الكتب التي تروج للسحر والخرافة، والكتب المسروقة والمنقولة من كتب أخرى والكتب التي تروج للعلم الوهمي، يضيف الجنوبي أن هذه النوعيات من الكتب التي يصفها بالمخدرات الفكرية تظهر في قوائم الكتب الأعلى مبيعًا في العالم والوطن العربي، ويبدي أسفه على ذلك، مما يلقي بالمسؤولية على القارئ وحده في اختيار عناوينه حتى لا يقع فريسة لكتب تصيب عينيه وبصيرته بالعمى، وينتهي إلى أن عهد: “اقرأ أي شيء” قد انتهى، وعلينا الاختيار من الأهم ثم المهم.
يكيل المؤلف اللكمات لكتب التنمية البشرية التي كانت في فترة قريبة جدًّا رائجة بشكل غير معقول بعناوينها البراقة التي لا تخلو من التدليس: الأسباب العشرة لتكون سعيدًا، المهارات الثلاثون لتكون غنيًّا، اعرف شخصيتك من شكل أذنيك، وغيرها، كتب تقدم الوهم المعلب في شكل علم ومعرفة.
كان من رأي العقاد أن القراءة تزيد العمر وتطيل الحياة لأنها تعطي تجارب وخبرات حياة الكاتب إلى القارئ، لكن هل تفعل كل ذلك؟ هناك كتب تقصر العمر وتضيّع الأموال ومع ذلك فالوقوع فيها وارد، وجميعنا أصابه لسع منها وأخذنا نصيبنا، ربما لندرك قيمة الكتب الجيدة كما يقول: روجر آشام الذي يضيف: إن تعلم القراءة الصحيحة في سنة واحدة يعطي ما تعطيه التجربة في عشرين منها، لكن المؤلف يعارضه بقوله: إن الوقوع وارد، لكن القبطان الذي لا يصير قبطانًا ماهرًا إلا بكثرة الغرق هو قبطان تعيس الحظ.
بحسب اليونسكو فإن العالم يصدر ثلاثة ملايين كتاب في العام، وعربيًّا يصدر بضع آلاف، ويطرح الجنوبي أسئلته على النحو التالي: كم عدد الكتب المفيدة منها؟ ما الكتب التي يمكن أن تكون منقذة للقارئ؟ ما الكتب الأهم للقراءة منها؟
ويجيب المؤلف عن أسئلته السابقة فيقول إن الكتابة عن الكتب الجيدة هي أقصر الطرق للتعريف بالكتب التي يمكن أن تساعدنا في صناعة التغيير وعمل وعي حقيقي بين الناس، وبذلك تضيق المساحة أمام الكتب التي تقدم محتوىً ضعيفًا ولا تتناسب مع قوة الدعايات المدفوعة لها، وينتهي إلى أن كتابة القراء عما يقرؤونه هي الممحصة لرفوف المكتبات ومعارض الكتب وقوائم الأعلى مبيعًا، إنها سلطة القارئ القوية التي ترفع وتخفض.
في كتابه الفاتن «وأنقذتنا الصفحات» يتجشم الكاتب والباحث المصري باسم الجنوبي عناء إظهار قيمة الكتاب والمعرفة
إن التأني في القراءة ثم الكتابة عن الكتب يأتي باكتشاف أبعاد جديدة لها، كثير من علماء النفس يرون أن ما كتبه ديستوفسكي قد مهد الطريق أمامهم لمعرفة ما يدور داخل النفس البشرية من دوافع ورغبات، وكثير من الأمراض النفسية شرحها شكسبير عبر مسرحياته، وتحدث عنها بورخيس في أعماله، بل إن علم النفس أطلق أسماء كثير من الأمراض النفسية من روايات أدبية مثل: إلكترا، أوديب، السادية، المازوخية، لذلك ليس مستغربًا أن يوجه فرويد رسالة شكر إلى الأدباء يقول فيها: الشعراء والروائيون هم أعز حلفائنا، ويجب أن نقدر شهاداتهم أحسن تقدير، لأنهم يعرفون أشياء بين السماء والأرض لم تتمكن حكمتنا المدرسية من الحلم بها، فهم في علم النفس معلمونا نحن معشر العامة.
يستعرض الكتاب أسماء كتب خرجت من رحمها كتب أخرى بعد أن تمت الكتابة عنها، من بينها مقدمة ابن خلدون التي قال المؤرخ أرنولد توينبي إنها ألهمت العالم أساسيات علم الاجتماع الإنساني، ومن العناوين أيضًا: رسائل إخوان الصفا، طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، ألف ليلة وليلة، حي بن يقظان لابن طفيل، منازل السائرين للإمام الهروي، دع القلق وابدأ الحياة لديل كارينجي، رواية إيما لجين أوستين ، قصة حياة جان دارك، موت الملك آرثر، رواية المسخ لفرانز كافكا، جعجعة بلا طحن لشكسبير، وغيرها.
يهدي المؤلف كتابه إلى معشر المؤلفين الرائعين الذين لا يعرفهم الكثيرون ولم توضع كتبهم في قوائم الأعلى مبيعًا ولم يقدرهم البشر، ويعرج من ذلك على قواعد لعبة التفاهة الحاكمة لسوق الكتاب، عبر كتاب”نظام التفاهة” لمؤلفه ألان دونو، تتلخص فكرته في أننا نعيش مرحلة غير مسبوقة بسيادة نظام سياسي واجتماعي واقتصادي أدى تدريجيًّا إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الحياة والمنابر ومؤسسات التوجيه وحتى التسلية، ولا يوفر المؤلف دور الإعلام في تسييد نظام التفاهة بشكل عام وتجاه الثقافة بشكل خاص.
على القارئ وحده اختيار عناوينه حتى لا يقع فريسة لكتب تصيب عينيه وبصيرته بالعمى
لا ينسى المؤلف القول أن كتاب نظام التفاهة يعد وجبة لطيفة تفتح الشهية على وجبات معرفية مشابهة: جوته وكافكا، كير كيجو وجون ديوي، سارتر وكامي، كونديرا وغوستاف لوبون، مالك بن نبي واللبناني مصطفى حجازي.
دائمًا كان التعريف الأكثر دقة للإنسان أنه “المخلوق المتفرد بالحضارة والذاكرة، وعليه تكون القراءة هي الفعل الذي يغذي إنسانية الفرد، مصداقًا لقول توماس كالاريل: كل ما فعلته البشرية أو فكرت فيه أو ربحته أو كانته يرقد بين صفحات الكتب محافظة عليه كأنها يد سحرية”.
وعليه فالقراءة هي الرموز والرسائل التي تحتويها الكتب، لم يكتبها أهل الفراغ، بل نخبة حرصوا على رسالة إنسانية تقول الكثير لمن بعدهم، إنها الونس في الغربة والنور في ظلمات الشك وحيرة اللايقين كما تقول ليف أولمان.
يذهب المؤلف إلى أن القراءة هي الأنجع ضد وباء غياب المنطق والذاكرة الذي يؤدي بالطبع إلى غياب الفطرة والإنسانية، إن متعة القراءة ولذة صحبة الكتب يجمع عليها الأدباء من كل المشارب، في أمكنة وأزمنة مختلفة، بوجع يقول نجيب محفوظ: “أكبر هزيمة في حياتي هي حرماني من متعة القراءة بعد ضعف نظري”، وعزيز نيسين يشاطره الأسى: “أتعرف ما هو الحزن العميق؟ أنظر إلى مكتبتي، وأنظر إلى الكتب التي أحبها ولم أقرأها، وأتخيل أنني سأموت قبل قراءتها”.
لا ينسى المؤلف ضرورة تعويد الأطفال على القراءة بمائة طريقة محببة، فهي البديل الصحي للأجهزة الإلكترونية، تأثير الحكايات التي تثير خيالهم، الحكايات من المكتبة لا تعطى للأطفال فقط ليناموا، بل هي زاد لهم في تعلم القيم والأخلاق التي لا يعبأ العالم بتعليمها لهم، الحكايات يسمعها الأطفال ليتعلموا ويناموا ويتعلمها الكبار ليستيقظوا.
علم النفس أطلق أسماء كثير من الأمراض النفسية من روايات أدبية مثل: إلكترا، أوديب، السادية، المازوخية
“إن أسوأ عملية أن يبيعوا لك كتبًا سيئة”، جملة ميخائيل نعيمة التي تنضح بالهم، ما بالنا لو جاء الآن ورأى كتبًا سهلة القراءة لا تفيد شيئًا بحسب المؤلف إلا بوضع اسم الكاتب على قوائم الشهرة، تحت عنون “وباء البيست سيلر”، وصل ذلك ذروته مع تغيير سياسات النشر إلى “الطبع مقابل الدفع”، فأصبح بإمكان أي شخص أن يكتب أي شيء وينشر له كتاب، ولقد فسر طه حسين هذه الظاهرة في فترة مبكرة بالقول: إنها استغلت كسل الإنسان وحبه للتيسير والسهولة وتجنب الجهد الشاق حتى مع حبه للمعرفة، لكن التيسير أمر ضار وخطير، وللأسف فهو منتشر لأن الكلام المبتذل اليسير ينتشر بسهولة بالكتب الرخيصة.
نحتاج في عالمنا العربي أول ما نحتاج للقراءة والصبر على المعرفة، يقول جلال عامر: الكتب على أرصفة مظلمة، والأحذية في فتارين مضاءة، وفي النهاية فإن قلب كتاب “وأنقذتنا الصفحات” هو القراءة والمثابرة على المعرفة.
كتاب يفتح مئة باب وألف نافذة للمعرفة، يقول كافكا: “نفاد الصبر هو ما حرم آدم من الجنة، والإهمال هو ما جعل هذا الحرمان مستمرًّا”.
** المصدر: مجلة “الجسرة الثقافية” . العدد 68