هل نيقولاي جوجول روسي أم أوكراني؟

- هل نيقولاي جوجول روسي أم أوكراني؟ - 2022-03-21
يحتل نيقولاى جوجول مكانة كبيرة فى تاريخ الأدبين الروسى والأوكرانى، كما أنه يمثل حلقة هامة فى تاريخ العلاقات الثقافية الروسية الأوكرانية. وقد ذهب العديد من النقاد إلى أن يطلقوا عليه لقب الجسر الذهبى الذى يربط بين القيم الروحية التى شكّلها الأدبان الروسى والأوكرانى.
ومن وقت لآخر، وخاصة مع توتر العلاقات بين روسيا وأوكرانيا منذ عام 2014، يدور جدل ثقافى حاد بين النخبة المثقفة فى البلدين، حيث يرى كل طرف أحقيته بأن ينتسب جوجول له ولأدبه. يرى المثقفون فى أوكرانيا أن جوجول أوكرانى وأن الدعاية الروسية قد نسبته لروسيا عن غير حق وأن الروس اعتمدوا فى ذلك على كون الكاتب قد أبدع مؤلفاته باللغة الروسية وعاش فى عاصمة الإمبراطورية الروسية بطرسبورج.
فيما يرى الروس أن الكاتب عاش معظم سنوات عمره فى روسيا، كما أبدع باللغة الروسية وليس الأوكرانية، ولذا فمن حقهم أن ينتسب الكاتب إلى قائمة عظماء الأدب الروسى الذين سطروا تاريخه فى عصره الذهبى فى القرن التاسع عشر.
فمن حيث النشأة والجنسية، يعد جوجول أوكرانياً بالفعل، على الرغم من أنه قد قضى فترة طويلة من عمره فى بطرسبورج. وقد قضى جوجول أكثر من عشر سنوات من حياته القصيرة (مات عن عمر 42 عاماً) خارج روسيا، حيث سافر الى أوروبا والشرق الأوسط وغاب طويلاً عن بلاده. وتعد الفترة التى عاشها فى بطرسبورج أكثر الفترات إنتاجاً فى حياته.
وقد كتب جوجول مؤلفاته باللغة الروسية، إلا أنه كان يتقن الأوكرانية أيضًا، ما يؤكده المفردات والتراكيب الخاصة به، والتى استخدمها فى نصوصه الروسية. بل وصل بالبعض من النقاد القول إلى أنه كان يتقن لغته الأم تماماً وكان بمقدوره الكتابة بالأوكرانية، إلا أنه لم يرغب فى ذلك، وسلك الطريق الذى سلكه الجميع بالكتابة بالروسية، وكانت أكثر شيوعاً ولغة سكان عاصمة الإمبراطورية الروسية.
من المعروف أن جوجول فى بادئ نشاطه فى الكتابة الأدبية لم يكن يتقن الروسية تمامًا، إلا أنه تمكّن من ذلك خلال خمس سنوات فقط، حتى أصبح الكاتب الأول فى روسيا، وأعظم من أبدع باللغة الروسية فى زمنه. ورغم ذلك، كان جوجول كثيرًا ما يلوم نفسه ويعتبر نفسه أجنبيًا عن الأراضى الروسية، ما جعله يبذل المزيد من الجهد لإتقان اللغة ودراستها على نحو أعمق.
وهكذا تمتع جوجول منذ صغره بامتلاك هذه الثنائية اللغوية بإتقانه اللغتين الروسية والأوكرانية. ورغم اعترافه بعشقه لروسيا وانتمائه لها كوطن، إلا أن ارتباط الكاتب بأوكرانيا والثقافة الأوكرانية عظيم، كما كان له أثر كبير على الكتاب الأوكران فى القرن العشرين.
ومع كل يوم تزداد شعبية جوجول وتتطور تقاليده وأثره فى أدب من خلفه من الكُتّاب، ليس فقط فى روسيا وأوكرانيا، بل فى جميع أنحاء العالم، وفى القرن التاسع عشر لا ينافسه فى ابداعاته سوى ليف تولستوى وفيودور دوستويفسكى.
وتتمثل قوة وسحر لغة مؤلفات جوجول فى المرونة والتأقلم وانتقاء الوسائل الأسلوبية من أجل تحقيق الأهداف الفنية المختلفة.
وقد ترك الكاتب أثرا كبيرًا فى تاريخ روسيا التى رأى فيها قلباً للعالم الأرثوذكسى الذى يحتاج إلى تجديد فى الفكر الدينى، حتى تحافظ على عقيدتها راسخة قوية فى مواجهة هجمة العقيدة الكاثوليكية من الغرب.
اشتهر نيقولاى جوجول بأنه ناثر وشاعر ومؤلف مسرحى، على قدر كبير من الموهبة. وُلد فى عام 1809 فى قرية من القرى التابعة لمدينة بولتافا فى أوكرانيا. وتنتمى عائلته إلى الطبقة الأرستقراطية. توفى والده وهو بعد صبيًّا فى الخامسة عشرة، وكانت والدته شديدة التدين وقد أحبها بشدة.
عندما أتم العاشرة، أرسله والده للدراسة فى مدينة بولتافا، حيث تعهده مدرس خاص بإعداده للالتحاق بالمدرسة. ثم التحق جوجول بالمدرسة فى مدينة نيجين وقضى فيها الفترة من1821-1828. ورغم أنه لم يكن طالبًا مثاليًّا إلا أنه كان يتمتع بذاكرة قوية ساعدته على الاستعداد لاجتياز الاختبارات قبل موعدها بعدة أيام. وكان الأدب الروسى والرسم المادتين المفضلتين لديه. وأثناء الدراسة أولع مثل رفاقه بأشعار بوشكين، وأصدر مجلة حائط، كتب فيها أولى إبداعاته.
منذ صغره، شغف جوجول بالثقافة الأوكرانية ومثّل مع أصدقاء مسرحية أوكرانية كتبها بنفسه، والطريف أنه على مدى مسيرته الحياتية كان مولعًا بالفلكلور الأوكرانى والعادات والحياة اليومية، وجمع مادة ضخمة عن هذه الموضوعات، ما نجد أثره فى كتابة ”أمسيات فى مزرعة بالقرب من ديكانكا”.
وقد شغف جوجول منذ صباه بالمسرح والقيام بالأدوار المسرحية، ويمكن أن يرجع السبب فى ذلك إلى أن والده كان محبًّا للمسرح، وكاتبًا لعدد من المسرحيات.
وقد قضى جوجول طفولته فى أوكرانيا، حيث عشق التقاليد والأغانى والرقصات والحكايات الشعبية، ولهذا نجد فيما بعد كثيرًا من مؤلفاته تدور عن الحياة فى أوكرانيا.
وفى عام 1828 انتقل جوجول إلى عاصمة الإمبراطورية الروسية حينها، مدينة سان بطرسبورج. وكان حلمه أن يقوم بعمل ذى أهمية وقيمة، ويستفيد من موهبته الطبيعية فى أى من مجالات الحياة الإنسانية. وحاول أن يمتهن التمثيل فى أحد مسارح بطرسبورج، كما جرَّب الوظيفة العادية، وكذا الكتابة. غير أنه لم يجد نفسه فى أوساط الممثلين المسرحيين فى العاصمة، كما لم يتقبله هؤلاء بينهم. كما بدا له العمل الوظيفى مملًا ورتيبًا وهو ما دفعه للاستقرار نهائيًّا على تحقيق حلمه فى الكتابة والإبداع الأدبى.
كان أول عمل أدبى منشور لجوجول هو قصيدته الرومانسية «هانز كيوخيلجارتين» (1829). إلا أنها كانت تجربة غير ناجحة حتى أنه اضطر إلى شراء جميع النسخ من المكتبات وحرقها.
وبعد هذه التجربة الفاشلة فى الكتابة توجّه جوجول إلى ألمانيا، وكانت لديه أحلام رومانسية، وكان يؤمن أنه سيحقق شيئًا غير عادى فى الحياة. كما فكَّر فى السفر إلى أمريكا أيضًا حتى يستطيع تحقيق كل ما يحلم به. غير أنه عاد مرة أخرى إلى بطرسبورج خلال شهر، وبدأ العمل موظفًا فى مختلف الإدارات الحكومية بالعاصمة. وفى عام 1831 تعرف جوجول على الشاعرين الكبيرين فاسيلى جوكوفسكى وألكسندر بوشكين وتأثر بهما كثيرًا وانعكس ذلك على إبداعاته.
واختار جوجول موضوعًا جديدًا للكتابة ألا وهو حياة الشعب فى أوكرانيا. وطلب من والدته أن تبعث إليه بأخبار الحياة المعيشية اليومية للسكان خاصة الفلاحين، وعن معتقداتهم الدينية والأساطير والخرافات والملابس والعادات وغيرها. وفى 1829 نشر جوجول أولى مؤلفاته عن الحياة فى أوكرانيا ألا وهو «ليلة فى شهر مايو» و«أمسية بالقرب من إيفان كوبالى» وغيرها.
وفى عام 1834 بدأ العمل مدرسًا بقسم التاريخ بجامعة سان بطرسبورج، وكان قد كرس حياته كلها للكتابة والأدب.
وكان أول عمل أدبى كبير للكاتب هو «أمسيات فى مزرعة قرب ديكانكا» (1832) ويعد -بصدق- موسوعة فى الحياة اليومية للفلاحين الأوكرانيين، ويعكس بوضوح عاداتهم وتقاليدهم القديمة المتوارثة. ويتسم العمل بمسحة رقيقة من الفكاهة. وقد أعجب الشاعر بوشكين كثيرًا بالكتاب. ولقى الكتاب نجاحًا واسعًا بين النقاد والقراء.
وشهد عام 1832 قيام جوجول بأول رحلة إلى موطنه فى أوكرانيا منذ أن غادرها. وفى الطريق إلى هناك زار موسكو. وواصل تناول الموضوع الأوكرانى فى كتاباته. فى 1835 أصدر مجموعتين قصصيتين بعنوان «أرابيسك» و«مير جورود». جلب هذان العملان اعترافًا به ككاتب كبير فى الأوساط الثقافية الروسية. ويضم كتاب «أرابيسك» قصصًا عن أحداث وأبطال فى بطرسبورج ومنها «بورتريه» و«مذكرات مجنون» و«شارع نيفسكى». فيما ضمت المجموعة الثانية قصص «تاراس بولبا» و«قصة الشجار بين إيفان إيفانوفيتش وإيفان نيكيفروفيتش» و«ملاك زمان».
وقد حلم جوجول بأن يصبح عالم تاريخ عظيمًا. وشهدت ثلاثينيات القرن التاسع عشر تأسيس جامعة كييف، فسعى إلى الالتحاق بها رئيسًا لقسم التاريخ، وحلم بكتابة عمل مرجعى تاريخى كبير إلا أن أحلامه لم يقدر لها أن تتحقق. غير أنه أصبح فيما بعد رئيسًا لقسم التاريخ بجامعة بطرسبورج وعمل بها أستاذًا حتى عام 1835. وخلال فترة عمله، قام بتأليف عدد من البحوث العلمية عن تاريخ القرون الوسطى فى الشرق والغرب.
وفى 1836 أصدر رائعته الكوميدية مسرحية «المفتش العام» والتى يسخر فيها من طبقة الموظفين الروس والبيروقراطية الفاسدة أثناء حكم القيصر نيقولاى الأول.
وكان جوجول يعرف عن قرب تفاصيل حياة الموظفين، حيث عمل لسنوات موظفًا فى بداية حياته. كما كانت له تجارب أخرى فى مجال المسرحيات الكوميدية، ونذكر منها مسرحياته «اللاعبون» و«الزواج» وغيرها.
وفى 1836 قرر جوجول السفر إلى الخارج، وبقى هناك 10 سنوات عاش فيها متنقلًا بين فرنسا وسويسرا وألمانيا وإيطاليا، وقد أعجب كثيرًا بالحياة فى روما، حيث أنهى فيها قصته الشهيرة «المعطف» وكان البطل الرئيسى موظفًا بسيطًا وإنسانًا على الهامش. كما أنهى فيها قصته «روما».
تعد روايته «الأنفس الميتة» العمل الأهم للكاتب فى تلك الفترة. وقد انتهى منها عام 1841 وهو بعد فى إيطاليا. كان من المفترض أن تصدر الرواية فى جزءين. وصور فيها واقع الحياة الروسية بكل ما يعتريها من عيوب وما يميزها من إيجابيات. ويعرض جوجول للحياة اليومية الروسية سواء فى طبقة الملاك أو الفلاحين ويرسم لوحات رائعة للطبيعة الروسية. وفى عام 1842 نشر روايته «تاراس بولبا» والتى تدور عن أحداث تاريخية واقعية وثورة الفلاحين فى أوكرانيا فى عامى 1637-1638. وقد استخدم جوجول مصادر تاريخية أثناء كتابة الرواية.
لعبت قصة «تاراس بولبا»، دورًا كبيرًا فى الترويج لأسطورة القوزاق، واستفاد منها قادة الحركة الوطنية الأوكرانية كثيراً فى القرنين التاسع عشر والعشرين. وعلى الرغم من حقيقة أنه كتب القصة باللغة الروسية، كان جوجول بالنسبة لهم رجلاً ساعد ودعم القضية الأوكرانية. ولذا فمن غير المستغرب أن يقوم الشاعر الأوكرانى الأشهر تاراس شيفتشينكو بكتابة قصيدة عن جوجول، مستخدمًا إشارات من «تاراس بولبا».
وفى عام 1842 وأثناء إقامته فى أوروبا، فكر جوجول كثيرًا فى حياته ومعناها وسبب وجوده، ولجأ إلى الدين. وكان عام 1845 صعبًا على جوجول حيث مر بمحنة وأزمة نفسية، حتى أنه كتب وصيته كما لو كان يستعد للموت. كما قام بحرق الجزء الثانى من روايته «الأنفس الميتة» وكان ينتظر نشره. حتى أنه قرر دخول الدير وأن يصبح راهبًا وينسحب من الحياة الدنيا تمامًا. غير أنه وبعد فترة من التفكير تراجع عن أفكاره تلك.
وفى عام 1847 صدر كتابه«مواضع مختارة من مراسلاتى مع أصدقائى»، وكان يضم مراسلات حقيقية للكاتب مع أصدقاء. وشهدت السنوات الأخيرة من حياته اهتمامًا شديدًا بموضوع الدين، وانعكس ذلك فى مؤلفاته بوضوح، وقام بدراسة كتب القديسين. وفى عام 1848 قرر السفر إلى القدس للحج. وبعد العودة واصل العمل فى الجزء الثانى من «الأنفس الميتة» والذى سبق وأحرقه.
وفى شتاء عام 1852 مر الكاتب بأزمة نفسية أخرى، وكان ذلك أثناء فترة الصيام، حيث قرر جوجول الالتزام بشدة به حتى يطهر نفسه من الآثام التى ارتكبها فى حياته. وقد تحول الصيام عنده إلى ما يشبه الإضراب التام عن الطعام حتى خارت قواه تمامًا ولم يفلح أصدقاؤه أو الأطباء بإقناعه بالعدول عن ذلك. وأدى ذلك إلى وفاته فى 21 فبراير 1852.
وبعد تتبع مسيرة حياته، من الصعب أن ننسب جوجول إلى بلد بعينه سواء روسيا أو أوكرانيا، بل يمكن التأكيد أنه كاتب عموم روسيا الإمبراطورية التاريخية، أنه كاتب روسيا وأوكرانيا ومؤلفاته كان لها تأثير قوى سواء على الثقافة الروسية أو على تطور الثقافة الأوكرانية.
يمكن بالطبع أن نقول إن جوجول أوكرانى، ولكنه كان عاشقًا لروسيا، وكان عشقه لها يزداد يومًا بعد يوم حتى أنه قال «روسيا تصبح قريبة إلى قلبى أكثر فأكثر، أعتبرها وطناً لى بل ما هو أكثر من ذلك».
لم تكن تلك الروح«المزدوجة» لجوجول متشظية بين الثقافة الروسية من جهة والأصول الأوكرانية من جهة أخرى، إنما الأمر بمثابة حب وعشق مضاعف ومتساوٍ تجاه أوكرانيا، التى نشأ فيها، والإمبراطورية الروسية حيث رحل ليخدم الدين والثقافة الأم. كان الأدب الروسى بالنسبة لجوجول بمثابة منبر يتحدث من خلاله الكاتب مع روسيا بأكملها، روسيا الأم والإمبراطورية الكبرى، وكان هو بمثابة مبعوث أوكرانيا وممثلًا لها.
وهكذا يمكن القول إن جوجول وما تركه من تراث عظيم يمكن أن يوحد بين الشعبين، لا أن يفرق بينهما. كان جوجول يكتب بالروسية ويفكر بالأوكرانية، ولكنه لم يقدم يومًا على تقسيم الشعب السلافى أو الدعوة إلى الفرقة بين أطيافه، بل على العكس من ذلك فقد كان يشعر دومًا أنه ملك لهما معًا وخدمهما معًا من كل قلبه، كما أنه مدين لهما معًا فى كل ما حقق من شهرة ومجد وصيت ذاع فى كل أرجاء المعمورة.
ولا إجابة شافية أكثر من عبارة قالها الأديب نيقولاى جوجول بنفسه حين أشار فى حديثه لبعض أصدقائه: «سأقول لكم كلمة واحدة ردًا على السؤال ما إذا كنت روحى أوكرانية أم روسية. حقًا لا أعرف ماهية روحى. ولكن ما أعرفه أننى لم أميز يوماً أوكرانيا على روسيا ولا روسيا على أوكرانيا. فالطبيعتان هبة كريمة من الرب، وكل منهما وكأنما عن قصد تمنحنى ما ينقص فى الأخرى، وهو ما يؤكد بوضوح أنهما يكملان بعضهما البعض”.
أخبار الأدب