وجيه نحلة الرسّام الحروفي المنبهر باللون

مهى سلطان
بعد مسار طويل وشاق في درب الفن وصراع مع المرض، رحل وجيه نحلة (1923- 2017) عن عمر يناهز الخمسة وثمانين عاماً، تاركاَ إرثاً ضخماً من الإنتاج الفني، حافلاً بالفرح اللوني والضياء والرقص والانخطاف المشدوه بالجمال.
وجيه نحلة من الفنانين العرب القلائل الذي أثبتوا ان الشهرة والوصول الى العالمية هما صناعة اولاً وأخيراً. هكذا صنع نجوميته بحذاقة وأقام معارض حول العالم ودخلت اعماله مقتنيات المتاحف الدولية، أهمها متحف الفاتيكان. أما جدارياته وأعماله الإسلامية، فتوزعت على عدد من القصور والقاعات الشرقية في دول الخليج، منها جداريّتان مذهّبتان بقياس خمسة أمتار في مركز دبي العالمي للتجارة. نال العديد من الجوائز العربية والأجنبية، من بينها جائزة متحف الميتروبوليتان في نيويورك وجائزة معهد العالم العربي في باريس، وجائزة متحف الفن الحديث في تونس وجائزة بينالي العرب في الكويت ووسام السعفة الذهبية في امستردام فضلاً عن وسام الاستحقاق اللبناني.
ذهب وجيه نحلة الى آخر التحديات في طريقة عصرنة التراث الحروفي- الإسلامي بأسلوبه التجريدي الخاص، واستطاع ان يكمل مسار التجريد المنبثق من مشهد الطبيعة بعدما اوصل تراثياته الى اشكالها المنتهية. لم تكن تعوزه الموضوعات لأن امتداد الخيال كان واسعاً لديه، إذ إن الطاقة الحيوية في الرسم والتلوين، والتلاعب بحركة الأشكال ونموها في الفضاء، من شأنهما أن تضفيا الدينامية على التأليف. فكان بغمضة عين قادراً على أن يحيل أي ضربة لون يطبّقها بفرشاته العريضة شكلاً واقعياً جلياً والعكس بالعكس. كان عمله مثل ساحر تختفي معه الأشكال لكي تعاود الظهور، وكل مرة بايحاء وإلهام مختلفين.
وجيه نحلة ظاهرة استثنائية في فن الأداء اللوني. وسواء كنتَ من مؤيدي اسلوبه او من معارضيه، لا يمكن امام موهبته إلا ان تصفق اعجاباً لقدرته على انجاز لوحة جدارية بساعات معدودة.
وجيه نحلة فنان صالَحَ بين معطيات الشرق والغرب. دمج بين الفن والحِرفة، وانجرف بعمق في جدلية الفن الحديث من باب التراث الزخرفي الإسلامي والحَرف العربي. أثيرت حوله أسئلة وشكوك، إزاء أصالة فنه المأخوذ من الزخرف الشرقي الجاهز، وظل موضع جدل، لا سيما عندما سطع نجمه في فرنسا، إثر معارض متتالية نظمتها له «غاليري ويلي فاندلي»، في باريس ونيويورك ولوس أنجليس بين عامي 1977 و1979.
عانى من جحود بعض النقاد المنحازين إلى فن سعيد أ.عقل، على ضوء أسبقيته في مزاولة الحروفية الطوطمية والتجريب على الخامات الناتئة، بالنسق الذي ظهر لاحقاً في أعمال نحلة. إلا انه واصل مساره وأقام معارض في جدّة، حيث أحرز شهرة عربية كبيرة، فزيّن قصور المشايخ والأمراء (في الرياض)، فضلاً عن مطار الملك عبد العزيز الدولي في جدّة، ومطار الملك خالد الدولي في الرياض، ووضع عشرات التصاميم لنُصُب نحتية في الساحات العامة، وأنجز ديكورات بعض مسـرحيات فـرقة كركلا للرقص الشعبي.
وجيه نحلة فنان عصامي كان والده رساماً هاوياً، بدأ إعجابه بالمناظر الانطباعية بعد تردده على محترف الفنان مصطفى فرّوخ. منذ أوائل الخمسينات ظهرت مؤشرات انحيازه إلى التراث العربي الإسلامي، وإن تخبّط قليلاً بين الاتجاه التعبيري من جهة، والملامس النافرة للكتابات الحروفية ذات النزعة الطوطمية السحرية من جهة أخرى، ذلك فضلاً عن استلهام الأبجدية الفينيقية ونقوش الحضارات الشرقية القديمة. تماهت تجاربه على السطح التصويري، مع اختبارات بعض الفنانين العرب خصوصاً العراقيين، التي تسابقت على استلهام التراث الإسلامي، هذا التراث الذي شكّل بالأساس منبعاً ملهماً للحداثة في اوروبا. أخذت لوحات نحلة تستوحي، حتى أواخر الستينات، مخطوطات قديمة برع فيها خطاطون ومزخرفون كفنون تطبيقية زيّنت البيوت والمساجد. وأطلق نحلة على نتاجه في السبعينات تسمية «المرحلة الذهبية»، لطغيان مادة الذهب على حروفه وزخارفه ذات الملمس النافر بعدما ادخل على اللوحة مادة البوليستر. توسع عمله من اللوحة إلى المشغل أو «الورشة»، بحثاً عن جمالية «القاعات الشامية».
أما في مرحلته الحروفية، فتجاوز نحلة إغراءات الزخرفة مركّزاً على حركة عصب اليد، موفقاً بين الموروث الإسلامي والفن الحركي Art Gestuel القائم على الارتجال، بما يحقق جمالية عصر السرعة التي اضحت ركيزة من ركائز مدرسة باريس. هذه النقلة النوعية حققت شهرته كفنان حديث، على صلة بتجارب فناني التجريد الحركيين في الغرب من أمثال جورج ماتيو وشنايدر وهانز هارتونغ.
في التسعينات، طبع اللون الأزرق ومشتقاته أكثر لوحاته، لكنّه لم يتخل عن الحرف. وصفه الناقد الفرنسي اندريه بارينو في مقالته الشهيرة «مبدع من الشرق» في عام 1977 بأنه «وجه عربي مسلم غير أنه ممهور بعقلانية الغرب… وهو أكثر التجريديين قرباً من التشخيصية وأكثر التشخيصيين قرباً من التجريد».
(الحياة)