وما زال الكتاب مفتوحاً..!

- وما زال الكتاب مفتوحاً..! - 2025-09-08
- لابوبو.. وعقلية القطيع! - 2025-06-11
- متى تقتنص الفكرة؟ - 2024-11-11
.. وكأن الحلم كائن غامض من طينة سرية لا يموت تمامًا مهما أُجهِز عليه، بل يظل يتهيأ في أعماقنا على نحوٍ آخر، حتى إذا ظننّا أننا واريناه تحت تراب الخيبة، أطلّ فجأة من شقٍّ صغير في قلبنا ليعلن نفسه بطريقة أكثر جمالًا. نحن نظن أننا ندفنه، لكن الحقيقة أنه يغيّر جلده ويبدّل ملامحه ويعود منتحلًا هيئة أكثر نضجًا وأعمق إشراقًا، حتى ليبدو أن كل كسر نعيشه هو في الوقت نفسه بابٌ سري لبعثٍ جديد.
كلما خسرتُ حلمًا، شعرتُ أنني أخسر قطعة منّي، غير أنني ما ألبث أن أكتشف أن تلك القطعة المفقودة سرعان ما تستعيد وجودها في شكل آخر أكثر حيوية.
نحن نظن أن الحياة تعاقبنا حين تكسر حلمًا لنا، لكنها في حقيقة الأمر تختبر قابليتنا للولادة من جديد، لا كما كنّا، بل كما صرنا بعد التجربة.
الحلم لا ينكسر إلا ليمنحنا درسًا في هشاشتنا وقوتنا معًا. هو المرآة التي تعكس ضعفنا حين نغرق في دموع الخيبة، لكنه في الوقت ذاته يكشف لنا أننا قادرون على التماسك والنهضة، حتى ولو كنّا نجرّ خلفنا أثقال الفقد. ولعل سرّ الإنسان، أو بالأحرى سرّ المرء، أنه كائن يتغذّى من خساراته أكثر مما يتغذّى من انتصاراته. الانتصارات تملأ الصدر بالزهو، لكنها سرعان ما تمرّ، أما الخيبات فإنها تتجذّر عميقًا، تدفعنا إلى إعادة ترتيب وعينا، وتفتح أبوابًا جديدة لأحلام لم تخطر لنا على بال.
كم من حلم فقدناه ونحن نعتقد أنه كان محور حياتنا، ثم اكتشفنا لاحقًا أنه لم يكن سوى خطوة ضرورية لحلم أوسع وأرحب. كأن الخسارة في جوهرها ليست سوى انتقال من ضفة ضيقة إلى أفق أكثر اتساعًا، وإن كان هذا الانتقال مؤلمًا وصعبًا.
نعم.. هناك أحلام تترنح أمامنا كجسور هشة، لكنها حين تنهار لا تدعونا للسقوط معها، بل تدفعنا إلى عبور غير متوقع نحو برّ آخر لم نكن نراه من قبل.
أحيانًا نفقد حلمًا صغيرًا لنكتشف أن خسارته أنقذتنا من ضيق رؤيتنا.
حلمتُ مرةً بمكان أرسو فيه وأستقر، لكن انكسار ذلك الحلم قادني إلى رحلة جعلتني أكثر وعيًا بأن الاستقرار ليس بالضرورة غاية، بل قد يكون قيدًا، وأن الحركة المستمرة هي ما يبقينا أحياء. وربما لهذا السبب يولد الحلم الأجمل دومًا من ضلوع حلم ميت، لأن في موته إشارة إلى أن الطريق لم يكن هناك، بل أبعد قليلًا، أو أعلى.
الحياة تعرف كيف تضعنا على المحكّ، وكيف تجعلنا نعيد التفكير في قيمتنا ومعنى وجودنا. حين يُكسر حلم كبير، نصبح فجأة في مواجهة أنفسنا بلا أقنعة، ونكتشف أن ما حسبناه نهاية العالم ليس سوى فصل من كتابنا، وأن الكتاب ما زال مفتوحًا على احتمالات أخرى. تلك اللحظة، بكل ما تحمله من وجع، هي في الحقيقة لحظة تنوير، لأنها تعلّمنا أن الحلم الأجمل ليس ما نرسمه بوعي كامل، بل ما يتسرّب إلينا من خلف جدار الخيبة.
الذين يظنّون أن الأحلام تموت حين تُكسر لم يتأملوا كيف يخرج العشب من بين شقوق الإسفلت. الخيبة لا تجهز على الحلم، بل تحوّله. الخسارة لا تلغي الرغبة، بل تهذّبها. والمرء الذي يظن أنه انتهى حين خسر حلمه الأول، سيكتشف أنه يبدأ لتوّه، وأن ما حدث لم يكن موتًا، بل تحوّلًا.
أكتب هذه الكلمات وأنا أفكر في كل الضلوع الميتة التي حملت في جوفها بذورًا لولادة جديدة. وأتذكر أنني في كل مرة بكيت فيها على حلم انكسر، كنت أجهل أنني أبكي على لحظة انتقال إلى حلم آخر لم يحن أوانه بعد. ربما لهذا صرنا نحتاج أن نؤمن بأن ما ينهدم فينا ليس خسارة كاملة، بل إعادة ترتيب لبنائنا الداخلي. وما ينبُت تحت الضلع الميت ليس مجرد حلم جديد، بل هو نسخة أكثر صدقًا من ذاتنا التي قاومت ونجت، وها هي الآن تبتسم من بين دموعها.
الحلم إذن ليس وعدًا بالنجاح بقدر ما هو وعد بالقدرة على التجدّد. ومهما انكسر لنا حلمٌ ومات، فإن في صمت الأرض الداخلية استعدادًا سرّيًا لأن تمنحنا حلمًا أجمل، كما لو أن الحياة، على قسوتها، لا تزال تملك قلبًا يعرف كيف يعوّضنا بما لم نتوقعه.
** المصدر: جريدة”الشرق”