أقيم في غاليري بيكاسو في القاهرة… «ذكريات شارع الأزهري» لأحمد عبد الغني: الاحتفاء برُهاب الذاكرة

محمد عبد الرحيم

أطلق الفنان أحمد عبد الغني على معرضه اسم «رهاب الفضاء.. ذكريات شارع الأزهري»، ويبدو أن الرهاب هنا ومع اختيار زاوية النظر من أعلى، رهاباً للزمن النفسي للفنان، أنت تطل من أعلى الآن، فترى أشياء كنت تجاورها وتجاورك، تمد لها يدك فتقبل التحية والسلام. تختبئ في تواطؤ طفولي أسفل منضدة، أو خلف نافذة خشبية وأنت تلعب لعبة (الاستغماية) مع إخوتك أو جيرانك، وتظن أنك تختفي جيداً، حتى تباغتهم في النهاية بوجودك، فيفرون أو يتجمدون مكانهم من الفزع. أي فزع الآن أو رهاب، وقد تفاجأ الفنان نفسه بهذه الأشياء تعود لتطل وتباغته من الذاكرة. فلا السنوات بمرورها ولا تغيّر الأماكن انتقص من هذه اللمحات التي تجلت بثقلها في لحظة، وتجسدت عبر اللوحات، ولا استجداء لتواطؤ مُرتجى، وقد غادره هذا العالم الذي جاهد في تصويره والإبقاء عليه قدر الإمكان. لتصبح الحالة في الأخير محاولة للانفلات من رهاب الفضاء إلى الوقوع الاختياري في رهاب الذاكرة. أقيم المعرض في غاليري بيكاسو في القاهرة، وضم حوالي 30 عملاً فنياً.

تفاصيل الذاكرة وأنسنة الأشياء

بيت قديم في شارع الأزهري ــ شارع في حي شبرا العريق ــ وما اللوحات إلا بعض من تفاصيل دقيقة لهذا البيت. أبواب ونوافذ وشرفات، سلالم وجدران، إضافة إلى كائنات قديمة يعرفها ذلك الزمن جيداً.. هاتف قديم، منبّه، فنجان قهوة، حقيبة سفر. ولا نستطيع سوى أن نطلق على هذه الأشياء مُسمى (كائنات) بما أنها الوحيدة التي تعيش الآن في المكان، وتمنحه حياته وسماته. هنا تصبح الأشياء بديلاً عن أصحابها، توحي بحيواتهم وأفعالهم، حتى تحركهم داخل الحيز المكاني ــ رغم اختلاف أحجام اللقطات التي تخيّرها الفنان ــ فتبدو أفعالهم من خلال استخدام هذه الأشياء. وحضور الشخصيات هنا يأتي من خلال ومضات خاطفة، بأن يتحوّل الجسد نفسه إلى بعض من تفاصيله.. كظل فوق جدار، أو ملمس يد تمسك بكوب، أو لا تزال تمسك بمقبض حقيبة، أو يقف صاحبها في شرفة، بينما أبوابها مواربة عاكسة ظلال المكان وتفاصيله. هنا لا يمكن الفصل بين الشيء وصاحبه، وتبدو اللعبة في أنسنة الشيء وتحوّل الشخص إلى جزء منه فقط يدل عليه وعلى وجوده الحقيقي، بينما الوجود الفعلي سيصبح أثراً تردده هذه الأشياء في تواتر يصل إلى حد اليقين.

اللقطة من أعلى والإحساس المُفارق

اللقطة من أعلى ــ كما في جميع اللوحات ــ تمتلك العديد من الإيحاءات والدلالات. كمدى تباينها ونظرة العين العادية، كذلك امتلاكها منظوراً مختلفا، يبدو صاحبه مفارقا للمكان، إلا أن الأمر هنا يبدو زمنياً أكثر. نلمح أثر الزمن وتأثيره في وعي الفنان، وكيفية صياغته من خلال هذه التقنية. نظرة التحليق من أعلى هذه ــ عين الطائر كما هو شائع ــ تؤصل الحالة النفسية لصاحبها، كمحاولة للإحاطة بتفاصيل المكان من ناحية، وعدم المقدرة على التواصل الفعلي معها، فقط لمحات من الذاكرة، يصبح القبض على تفاصيلها هو الهم الوحيد.

الذاتي وعالم الوقائع

ورغم التفاصيل المكانية التي يحتفي بها عبد الغني، وهي تفاصيل معروفة وشائعة للأجيال القديمة نسبياً ــ أو من خلال مشاهدة الأفلام الأبيض والأسود ــ إلا أنه يُنتجها من خلال رؤية غارقة في الذاتية، يبدو ذلك من خلال تكوين الكادر، والعلاقة ما بين مقدمة الكادر والخلفية، إضافة إلى لعبة النور والظل، وهنا يأتي الظل في الغالب أمام الجسم المصوّر، وهو ما يخالف منطقية الظلال في التصوير، حتى أن الضوء في العديد من اللوحات لا يتضح مصدره، ولنا أن نتخيل كونه مصباحاً في المكان أو ضوءا خارجيا يتسرّب من إحدى النوافذ. التشكيل هنا ذاتي ويمتزج بأشياء من واقع الحياة ومفرداتها، تبدو واقعيتها، لكنها لا تنتمي إليه بأي حال. المفارقة دائماً ــ كفكرة ــ هي التي تتحكم في إيقاع اللوحة، وتصوغ مفرداتها.

التوثيق والحِس التأثيري

يوثق الفنان أحمد عبد الغني من خلال ذاكرته للشارع حيث يوجد منـــــزله القديم، مشــــهد طفولته المُختفي، وبما أنه يعمل من خلال الذاكرة ــ عبر الذات ــ فإن الحِس التأثيــــري، سواء على مستوى اللون أو التكوينات البصرية في مُجملها يسيطر على جميع اللوحات. فتبدو هذه الأعمال في حال دائمة من الدهشة لدى المُتلقي.
فالأمر وإن اقترب من الفوتوغرافيا، إلا أنه لا ينتمي إليها في مباشرة الصورة الفوتوغرافية ــ رغم جمالياتها الخاصة ــ عالم آخر يُعيد الفنان صياغته وفق هواه، سبيله ذاكرته، حالة من التأسي على عالم اختفى أو أوشك على الاختفاء تماماً. لكنه يجسد حيوات وأصوات بشر كانوا يوماً ما هنا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى