الترجمة فعل تاليف ومن لايخلص لـ«نبي» جبران يخون الإنسانية: جميل العابد: لو لم أكن مترجما لكنت حكواتيا في مقهى دمشقي

الصّادق الرضي

«رغبتي في ترجمة «النبي» صدى شوق للإبحار في أعماق النفس البشرية والتوغل في مجاهل الحياة لازمني منذ صغري، ولقد كان الكتاب الأكثر قراءة في التاريخ فرصتي، الشعر والخيال والفلسفة زادٌ وجدتُ روحي تقتات عليه وأنا أقرأ بشغف- ولما أتجاوز الخامسة عشرة، ترجمة رواية ألفونس كير «تحت ظلال الزيزفون» في سبك وكلمات المنفلوطي، وبعدها «دمعة وابتسامة» ثم «الأجنحة المتكسرة» ثم «البدائع والطرائف» لجبران.» هكذا يبتدر جميل العابد مقدمته للطبعة السابعة من كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، وجميل العابد مترجم ومؤلف من مواليد حلب، سوريا 1946، يقيم في لندن، عمل مخرجا إذاعيا في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) ثم معلماً للترجمة في جامعة ليدز، نال جائزة المفوضية الأوروبية للترجمة الإبداعية ومنحة إقامة في حرم جامعة «إيست إنجليا»، عضو المعهد البريطاني للترجمة الفورية، وله رواية- قيد النشر- باسم «علي النجار».
هنا نص الحوار مع مترجم «النبي»..
■ لماذا «جبران خليل جبران»، بالأحرى، ما الذي أغراك بـ«النبي»؟!
□ نشأت أهجس بالكلمات وأنا أصغي لتراتيل القرآن تبثها الإذاعات وأقرأ النصوص وشرح المفردات في كتب القراءة في المدرسة الابتدائية، وبعدها في الإعدادية ثم الثانوية، أقرأها بإمعان يمليه شغف متزايد لا أعرف طبيعته ومصدره. لم أكن أعلم حينها أني سأبقى مولعاً بالكلمات مدى الحياة.
لكن الكلمات أجنحة تحملنا إلى فضاءات في الوجود. هي درب يفضي إلى الغيب. وعبقرية جبران خليل جبران في ظني تكمن في كلماته ورؤاه. بكلمات بسيطة موشحة بأردية شفافة، صاغ جبران مفاتيح رؤى تقربنا من المجهول لنفك بعضاً من رموز الحقيقة المسربلة في الغموض. إذا كان ويليام شكسبير غاص في أدق العقد والعواطف البشرية، المأساوية منها والهزلية، وذهب إلى أبعاد في تلك العقد والعواطف لم يصل إليها غيره، فإن جبران خليل جبران جاب آفاق الإنسان وأماط اللثام عن سديم الكون. تحدث الشاعر الإنكليزي عن الحب والحرية والجمال، وعن القوانين والموت والدين، تحدث عن كل ما تحدث به جبران، إلا أنه لم يتحدث عن حقائق الحياة هذه وعن غيرها كما تحدث عنها جبران. قارنوا بين عدد قراء الأول وعدد قراء الثاني في العالم اليوم. إبحثوا في حجم مبيعات كتب شكسبير وحجم مبيعات «النبي». شكسبير تدرسه الكليات ويعترف به المختصون في الجامعات كاتباً لا يضاهى، و»النبي» يقرأه الناس وتعترف بتأثيره وسحره عقول وقلوب الناس، كل الناس باستثناء الناطقين بالعربية من أهل الأرض. هذا هو ما أغراني في «النبي».
■ سبع طبعات، من ترجمتك لـ«النبي»، هل هي رغبة في تبليغ رسالة، أم نزوع لبلوغ كمال ما؟
□ ليس هناك أي رسالة. لكني أعترف بأن هناك نزوعا لبلوغ كمال لغوي في الصياغة، كما في دقة الترجمة دافعه هاجسي القديم بالكلمات وهو ما يفسر طبعات ترجماتي المتعددة رغبة مني للوصول إلى ذلك الكمال المنشود ما استطعت وصولاً.
■ في الترجمة بوصفها عملا إبداعيا، هل يمكن أن يكون النص- حقا- مخلصا للأصل؟
□ الإخلاص للأصل هدف المترجم الأول، أو هكذا يجب أن يكون، وهو هدف مهني أخلاقي معاً يتمسك ويتشبث به مترجمون ويغفله آخرون. «النبي» كتاب صغير يضم بين دفتيه كل كبير. مساحته الإنسان وحقائق الحياة ومداه الكون. يسبر الأشياء والقضايا التي تشغل بال البشر منذ الأزل. لم يتحدث أحد عن الألم مثلما تحث جبران. لم يتحدث أحد عن الفرح والحزن مثلما تحدث جبران. لم يتحدث أحد عن الجمال والحرية والموت مثلما تحدث جبران. لم يتحدث أحد عن القوانين وعن الجريمة والعقاب مثلما تحدث جبران. تحدث جبران عن آمال وأحلام ومعاناة الإنسان، لذلك فإن من يتصدى لترجمة كتاب بحجم «النبي» لا بد أن يحرص على أن يكون مخلصاً للأصل. من لا يخلص لنبي جبران الأصل، يخون البشرية جمعاء.
في أي ترجمة تتاح للمترجم فرصة أن يكون مؤلفاً ثانياً للنص الأصل، فالترجمة بطبيعتها اللغوية فعل تأليف أيضاً يقدر عليه المترجم عندما يكون درج على التفكير باللغتين، اللغة المصدر واللغة الهدف، عندما يكون اعتاد على أن يحلم بهما وإذ ذاك يكتب بواحدة بينما يعيش في الثانية فلا تضيع منه شاردة.
■ ماذا عن المسافة بين المؤلف والمترجم، المسافة بين لغتين، وذلك الخيط الرفيع بين أن تكون مترجما وأن تكون منتجا للنص؟
□ المترجم يكتب نص المؤلف بلغته الخاصة فكأنه يعيد كتابته. وقد يتفوق المترجم على المؤلف في حالات خاصة، فالمسافة بين المؤلف والمترجم يحددها نجاح المترجم أو فشله في الاقتراب من النص الأصل ومدى اقترابه منه أو ابتعاده عنه. يتفوق المترجم على المؤلف هنا وهناك، وأحياناً في النص كله إذا ما ملك ناصية اللغة الهدف بالسليقة أكثر من المؤلف، وإذا ما تمتع ببصيرة لغوية جمالية ثاقبة أكثر من المؤلف. لم لا والمؤلف إنسان كالمترجم ولكل منهما قوته وإبداعاته الخاصة به مثلما له عثراته ونقاط ضعفه. ليس هناك أي مؤلف وليس هناك أي مترجم يملك كنوز الإبداع كله. يتكئ المترجم على رؤى وأفكار وحبكة المؤلف فلا يبقى أمامه ما يشتغل عليه بتفرغ سوى اللغة بكل بديعها الكامن فيها. يسرق المترجم المحتوى ويصيغ له إطاراً مختلفاً أكثر ألقاً وجاذبية.
يحق لكل مترجم، بل من واجبه أن يضع التفوق على المؤلف هدفاً له. هكذا يلد الإبداع إبداعاً. هكذا يتكاثر الجمال كما يتكاثر الإنسان. هكذا يثبت المترجم جدارته. اللغة كائن بروح. وهي لا تقل أهمية عن الفكر. واللغات أرواح تعكس ثقافات الشعوب. عندما يكتب المترجم بلغته الخاصة فإنه يعكس ثقافة شعب بأكمله وروح أمة بأكملها. يكتب بقلمه وروحه. وإذ يكتب يضفي على النص من روحه كما من لغته ما يعمقه ويغنيه على نحو لا يستطيع هو ذاته تفسيره.
ظني أن جبران كتب «النبي» بالإنكليزية لسببين، الأول يكمن في إدراكه بأن هذا الكتاب هو عصارة روحه وفكره فأراد أن يجعله في متناول القطاع الأكثر قراءة في العالم وهو العالم الناطق بالإنكليزية؛ والثاني الذي له علاقة بالأول هو لأنه كان يشارك راعيته ماري هاسكل الأمريكية بأفكاره ورؤاه التي سيجسدها الكتاب الذي ستساعده في تحريره في مراحل اكتماله. عندما ترجمت «النبي»، كنت أترجم لقلم كتب بالإنكليزية ولروح عربية سورية من بْشِرِّي في جبل لبنان الذي لا يبعد عن مدينتي حلب سوى عشرات الأميال. حتى قبل أن أترجم «النبي»، كانت المسافة بيني وبين جبران قريبة. لم يكن عليّ إلا أن أمتطي صهوة خياله وأحلق معه وأتنفس روحه التي هي بعض من روحي. ولقد عشت فقيراً مثله وابتليت بشظف العيش مثله وعرفت كما عرف هو الملاذات التي يرومها المحرومون وكلها ملاذات إحساس وخيال. مثله ملكت مخزون المنطقة الثقافي والمعرفي ومثله شربت من خوابي الندى المستخلص من ضوء النجوم، وأحببت محمداً والمسيح مثله. فإذا ما بلغ سمتاً في تحليقه المبدع استطعت أن أتبين السمت العلوي من موقعي الأرضي، من بيتي القريب من بيته وبيت آبائه وأجداده.
ولد جبران كاتباً وأنا ولدت مترجماً ومعين الكتابة والترجمة واحد. إنه الكلمات وهاجس الكلمات. هناك فعلاً خيط رفيع بين الكتابة والترجمة. إنه الحبل السري بين موهبة الكتابة وموهبة الترجمة. يولد المترجم مترجماً مثلما يولد الكاتب كاتباً.
■ بجانب مشروعك الإبداعي مترجماً، هناك مشروعك الإبداعي روائياً، ماذا عن فتنة السرد؟
□ لو لم أكن مترجماً وروائياً لكنت الآن حكواتياً في مقهى دمشقي. شيطان الكلمة فيروس يصيب المتأمل وأنا أتأمل حتى يتعب مني التأمل والحكايات تحكيني كما أحكيها. أثناء ترجمتي لـ»النبي كنت أحكي حكاية جبران. أجلس إلى جانبه وأنا أترجم وأراه يبتسم لي من سديمه كلما اصطدت سمكة من أسماكه أو التقطت خيطاً من خيوط إبداعه.
ولقد كنت دائماً مدركاً لإدراكه بأني أحكي قصته مع الحياة التي عاشها بيننا. لا تكتمل الترجمة إن لم تكن حكاية. هنا تكمن فتنة السرد وتتجلى الغواية. نعم، أنا أكتب رواية. ولكم آمل أن أنجح فيها كما نجحت في ترجمة نبي جبران.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى