التشكيل اليمني في زمن الحرب… بعيدا عن السياسة وقريبا من الضحايا

أحمد الأغبري
قد يكون الفن التشكيلي في اليمن هو أكثر مجالات الإبداع تأثراً بالحرب؛ فمغادرة الأجانب ومحاصرة البلد أفقد هذا الفن أهم موارد معيشة فنانيه، ليجدوا أنفسهم مع الحرب يعيشون واقعاً صعباً لم يشهدوه قبلاً. وعلى الرغم من ذلك فقد كان هذا الفن من أوائل مجالات الإبداع تفاعلاً واشتغالاً على الحرب، كموقف إبداعي يكاد جميعهم يتفقون فيه رفضاً للصراع بكل مسمياته، خلافاً لبقية مجالات الإبداع التي تعددت فيها المواقف من الحرب بجانب الرافضين لها من حيث المبدأ.
لقد ظهر الموقف الإبداعي التشكيلي اليمني من الحرب خلال شهور قليلة من استعارها؛ وهو ما تجلى واضحاً في معرض الفنان حكيم العاقل «الحرب والسلام»، الذي نظمه أوائل عام 2016، عقب عشرة شهور من اشتعال الحرب في 26 آذار/ مارس 2015.
رسم الموت
ظهور أعمال العاقل، وهو من أبرز تشكيلي اليمن، بعد تلك الفترة من بدء الحرب الراهنة يعني أنه ظل منذ بدء الحرب وهو يشتغل عليها، مدركاً واجبه في التعبير عن موقفه منها، كحدث لا يتكرر بالنسبة له كفنان أولاً. وحدث شهدت معه الحياة العامة تحولات جذرية يبقى من الضروري تناولها وتوثيقها والتعبير عنها تشكيلياً. ولذلك اعتمد الفنان العاقل ردود فعله تجاه معايشته أيام اشتداد الحرب وقصف طائرات التحالف اليومي لمدينة صنعاء، والمواجهات بين أطراف الصراع التي احتدمت في مدينة عدن، واستعرت في مدينة تعز وفي القرى والمدن اليمنية في البلاد. تناول العاقل بمنظور (عين الطائر) آثار تلك الحرب من وجهة نظره، التي حاولت تقديم رؤية متزنة قدر الإمكان؛ مُدركاً أنه يقدم معرضه تحت سلطة تمثل أحد طرفي الحرب؛ وبالتالي فإن لوحاته، على الرغم من ذلك، قدمت موقفه المنحاز للضحايا؛ فقدم مشاهد الموت، وهي مَهمَة صعبة على الفرشاة غالباً؛ فاشتغل على الخراب الذي أحدثه الصراع في مدينة تعز وفي عدن، وما خلفه قصف التحالف في صنعاء من مناظر دامية… وعلى ما في تلك المناظر من ألم وحزن؛ إلا أن صور الواقع كانت أكثر مأساوية، لكن الفنان لم يتعامل مع الواقع بفوتوغرافية؛ فكما قال إنه أراد أن يقول كلمته ويعبر عن موقفه الرافض للحرب، ولعل ما قدمه كان كافيا لاختزال أكثر الصور مأساوية؛ فماذا بعد الموت؟ كما أن النقل الفوتوغرافي ليست مهمة الفنان التشكيلي؛ فاللوحة في الأخير هي موقف فنان؛ والموقف لابد أن تتم قراءته بمنظار متجرّد من موقف أحد طرفي الحرب؛ لأنه في حال تمت قراءته من منبر هذا الطرف أو ذاك؛ فسيختلط حابل الحرب بنابل الفن.
توزعت أعمال العاقل بين مجموعة خاصة بالحرب وأخرى صوّرت جمال البيئة اليمنية، أراد منها الفنان أن تعبر عن السلام وفق رؤية مختلفة هي رؤيته، التي تبقى رؤية جريئة لا سيما وقد أنجزها تحت القصف في منزله القريب من أكبر المناطق المستهدفة بالقصف وفي منطقة هي خاضعة لسيطرة طرف من أطراف الصراع. تكاد أعمال حكيم العاقل تمثل اتجاه مختلفاً عما جاءت به الأعمال الأخرى من حيث تحاوره مع السياسة، وفق مفهوم أدان فيه الجميع رافضاً الموت والخراب الذي نال من الإنسان والمكان، باعتبارهما روح وذاكرة البلد، ما يجعل من خسائر الحرب كارثية بحق مفهوم الوطن، وما يجعل الحرب مرفوضة تحت أي مبرر.
حزن المرأة
توالت الأعمال التشكيلية التي تعاملت مع الحرب عقب معرض العاقل؛ إلا أننا لم نشهد معرضاً كُرس بكاملة للحرب كما فعل حكيم، باستثناء معرض لأحد الفنانين الشباب، وصولاً إلى معرض جماعي نظمته منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف» في صنعاء لمجموعة من الفنانين من أجيال مختلفة، تناولت لوحاته الحرب والسلام، وكان أبرز معروضاته أعمال الفنان مظهر نزار، الذي ينتمي للجيل الثاني، ويعدّ أكثر فناني جيله غزارة في الإنتاج، ولعل أعماله الخاصة بالحرب، حتى الوقت الراهن، تجعل منه أكثر التشكيليين اشتغالاً على الحرب وفق رؤية أكثر عمقاً. وإن كان لم ينظم معرضاً لهذا الموضوع، إلا أن مشاركته في معرض «يونيسف» كانت بداية مشاركاته في معارض جماعية خاصة بأعمال الحرب، التي توالت بعدها أعماله ذات العلاقة، ملتزماً فيها المرأة ثيمة حاضرة في مجمل أعماله؛ ولعلها ساعدته في هذه الأعمال كثيراً في التعبير عن معاناة الحرب، باعتبار النساء والأطفال هم الأكثر تضرراً من هذه الحرب؛ وبالتالي فقد منحته المرأة حالة تعبيرية خاصة ذات قدرة أكبر على استنطاق الألم؛ وهي الحالة التي ظلت تتصاعد في أعماله المتوالية، التي دأب على عرضها في حائطه في «فيسبوك»، حتى نجد الأعمال الأخيرة تقول الكثير، أو كأنها كذلك، خاصة وهو يحرص على استغلال سطوح اللوحات في استحضاراته للتاريخ اليمني القديم والثقافة المحلية في التعبير عن رؤيته الرافضة للحرب بمحمولاتها المختلفة، ومدلولاتها الممتدة لقراءة واسعة في نص يبدو واسعاً، على الرغم من محدودية العناصر في سطوحه ونصوصه البصرية.
في مجمل أعماله ذات العلاقة انحاز مظهر للضحايا؛ فالمرأة ليست سوى رمز للمجتمع علاوة على ما تمثله المرأة من مرجعية لكل آلام الحرب، باعتبارها مستقر كل حزن وفقد يعيشه المجتمع بأسره. وقد أجاد مظهر التعامل مع آلامها وآلام البلد بلغة تكوينية ولونية ربما تخلت عن بهجتها في الأعمال الأخيرة ذات السواد الأكثر، التي استخدمها الفنان لأول مرة بهذا المستوى؛ وكأنه تعبير عن مستوى الألم الذي صار يتضخم في صدر الفنان، مع استمرار الحرب؛ فأعماله الأولى مع بدايات الحرب تختلف عن أعماله الأخيرة، وقد صارت آثار الحرب في كل شيء من حولنا وتحاصر الجميع بالأنين.
الإيمان بالسلام
بين تجربتي العاقل ومظهر يمكن الحديث عن تجارب أخرى لفنانين شباب، لكنها لم تكن بمستوى ما قدمه الفنانان، إلا أنها جديرة بالوقوف أمامها كأعمال الفنانين: زياد العنسي وأمهاني الوريث وسيما الدبعي وغيرهم، الذين قالوا كلمتهم في الحرب تشكيلياً من خلال اشتغالها على مشاهد من الحرب والخراب، وعلى ما فيها من تجريدية نسبية، إلا أنها بقيت أقرب إلى النقل الواقعي، وهو ما لا يقلل من قيمتها؛ فبعض الفنانين كانوا أكثر تجريدية وتعبيرية عن موقفهم من معاناة وطنهم، كلوحة الفنان فهمي الضباب التجريدية لوطن بهيئة إنسان يوشك أن يتمزق جسده الذي يحمله إنسان آخر مُنهك القوى، وهي رسالة قوية لما باتت عليه البلاد، وكذلك لوحات الفنانة آمال عبدالسلام.
توزعت لوحات الفنانين الشباب بين التشاؤم والتفاؤل.. وكان كثير منها منحاز متفائل وهي الأعمال التي حاولت جاهدة أن تبذر بذور الأمل في مناظرها باعتبار السلام هو الأمل الذي يفترض أن يشتغل عليه الفن. بين كل ذلك يمكن القول إن أعمال التشكيلية آمنة النصيري، وهي من الجيل الثاني في المحترف التشكيلي اليمني، تمثّل حالة خاصة في اشتغالها على فكرة السلام، إذ لم تكن بحاجة إلى رسم الحرب والخراب، بقدر ما هي بحاجة إلى تكريس ثقافة السلام من خلال رؤى جديدة؛ ليس باعتبار أن هذه الأفكار هي التي يفترض أن يشتغل عليها الفنان، ولكن لأن ثمة فنانين لا يؤمنون بعلاقة واضحة بين التشكيل والحرب، بقدر العلاقة الواضحة بينه وثقافة السلام، ولكن على الرغم من ذلك فلوحة الفنانة النصيري الداعية للسلام هي لوحة رافضة للحرب في الوقت ذاته.
اختلف الفنانون في التعبير عن مواقفهم؛ لكنهم اتفقوا في استشعار معاناة الناس، وبالتالي رفضهم للحرب والتعبير عن مواقفهم بكل ما أوتوا من جهود لتكريس ثقافة السلام؛ وهي مهمتهم التي يفترض أن تستمر مستقبلا في سياق مواجهة ثقافة العنف والصراع والكراهية التي مازالت تكرّسها الحرب الأهلية الراهنة.
(القدس العربي)