الجزائري خالد بن صالح: أحاول كتابة قصائد مادتها النثر وغايتها الشعر

سمير قسيمي
يستمر خالد بن صالح في نقش اسمه في مدونة الشعر العربي، عن طريق اشتغاله على التجريب الشعري واستثمار قدراته السردية التصويرية في كتابة قصيدة مختلفة، حتى أصبح النقاد في الجزائر يعتبرونه أهم صوت شعري جزائري منذ عشرية.
فمنذ ظهور أولى مجموعاته الشعرية «سعال ملائكة متعبين» المترجم معظمها إلى أكثر من لغة، عمد خالد بن صالح إلى إعلان اختلاف تصوره للشعر، وكتب قصائد تعتمد على تمطيط اللحظة الشعرية وتصويرها كمشهد سينمائي، ولكن بلغة الشعر، مظهرا براعة استلهمت في البداية تجارب غربية صرفة، ليصل في الأخير إلى مجموعته «الرقص بأطراف مستعارة»، التي تخلص فيها بنحو كامل من أصوات سواه.
■ لنبدأ من العنوان: «الرقص بأطراف مستعارة» أليس إحالة إلى المستحيل؟ إنه عنوان يجعلني أتصورك وقد أنهيت مجموعتك مبتهجا لحزنك، أو لسخريتك من القارئ؟
□ ربما هي سخرية الحياة منا جميعاً، حين تتحول المآسي إلى ولائم، والأجساد الممزقة إلى دمى راقصة، تمسكها خيوط الذاكرة، التي رغم هشاشتها إلا أنها لا تُفلت طرفا. العنوان هو توليفة بين متناقضين يحققان شرط الوجود، الرقص كحالة انتشاء لقدرة الجسد على الإبهار، والوهن وعدم التناسق في الأطراف المجمعة من حكايات مهملة ومقابر جماعية وحزن استعدته بألم ومتعة غريبين. ربما هو عنوان حياة سابقة أعيشها اليوم بإيقاع حياة أخرى.
■ تماما، فالمجموعة بنصوصها المختلفة، تكاد تكون نصا واحدا، غير واضح المعالم، لنقل إنه يشبه جسدا ممزقا. هل يصلح أن أقول إنك كتبت «الشظايا»، محاولا أن توهمنا أنها جسد متجانس، يملك القدرة على الرقص؟
□ التجانس في الكتاب يتجلى في اعتقادي في أمرين، أولهما الثيمة التي تجمع تلك «الشظايا» من خلال الاتكاء على ذاكرة الشاعر الشخصية وما عاشه في تسعينيات القرن الماضي وعشرية الجزائر السوداء. وثانيهما هاجس الاشتغال الشعري والتجريب لكتابة قصائد تحقق شرطها الإبداعي كقصائد نثر تتجرأ على القارئ، خاصة الجزائري، بأن تعلن انحيازها للمشهدية والتكثيف وربما التقشف اللغوي الذي لا ينهك القصيدة بقدر ما يحيلها إلى أخرى. ربما هذا ما يجعل الرقص ممكنا ولو بجسد ممزق. لا أحب أن أقول إنه مانيفستو شعري بصوت خافت، لا تصرخ فيه الضحية بل تتألم وتعيش موتها بمتعة تصل حد الجنون. متمسكة في تلك اللحظة الفارقة بكل صور الطفولة والتسكع والرغبة في امتلاك أسباب الحياة على قلتها.
■ أعتقد أن مجموعتك لم تتميز بالمشهدية والتكثيف فحسب، بل أيضا أنها تقدم شكلا شعريا غير معهود عربيا، من خلال عدم مبالاتها بالفاصل بين «النثر» والشعر»، أو حتى أكون دقيقا تجرأت على الشعراء بكتابة «السرد» داخل متن شعري لا يمكن التشكيك فيه؟
□ طبعا، هذا ما يمكن لقصيدة النثر تحقيقه في اعتقادي. ومازالت محاولاتي مستمرة لاكتشاف مناطق جديدة لم أصل إليها من قبل، قراءة وكتابة. السرد جزء أساسي من هذا الاشتغال. أن تكون هناك قصة ما، حكاية لا يمكنك التنكر لها، ولكنها لن تمنحك أبدا يقين التأكد. الشعري في «الرقص بأطراف مستعارة» يبدأ من الكلمة، الجملة الواحدة، العبارة المركبة، ويذهب إلى السرد في نص نثري ينتهي عندما يرفع الشاعر صوته ويجهر على ما يجعل النص غير شعري. لا أدري إن كنت وفقت في ذلك، لكنها المحاولة الأكثر قسوة وألما منذ بدأت الكتابة. سنوات ومسودات وقصائد كثيرة محذوفة، لأنني لم أشأ التوقف عند فكرة استعادة الماضي بل تجاوزه إلى ما هو أهم من السياق العام للمجموعة. الشاعر كذلك يمتلك شيئا من خبث اللغة وصعوبة ترويضها، ولا أظنه يستسلم للسهل والمتاح.
■ «تراودني فكرة غبية إلى حد ما، أن أقتلك مثلا».. مع قراءتي لمجموعتك الثالثة، لا أعتقد أن الفكرة راودتك فحسب مثلما كتبت في «ككاتب سيناريو فاشل»، أنت قتلت حتى ظل الشاعر المتأثر بسواه الذي ستمر معك حتى مجموعتك الثانية. في عملك الأخير لم أسمع صدى صوتك، سمعت صوتك وفقط؟
□ سأكون سعيدا جدا إذا كنت فعلا قاتلا محترفا بهذا الشكل، وتمكنت من إيجاد صوتي الخاص. لكن هذا الهاجس ماثل بداخلي ولن أتنازل عنه، ولعل المجموعة الثالثة، مقارنة بسابقتيها، أكثر نضجا وجرأة وتحكما في الأسلوب وتفاصيل الكتابة. ربما بها سأكون كاتب سيناريو غير فاشل، بالمفهوم الشعري للكتابة. وهذا يكفي للتطلع والخوف من التجربة المقبلة.
■ لم يكن ذلك مديحا، بقدر ما هو مقدمة متذاكية لأنتقد بعض خياراتك، فقصيدتاك «يوميات مضادة» و»فراشة جبران» كانتا نشازا مقارنة بالقصائد الأخرى، يشعر القارئ انهما لم تكونا في السياق العام للمجموعة؟
ـ مثلما قلت لك، إحدى مقتضيات التجريب هو البحث المستمر عن نوافذ في الكتاب الذي تشتغل عليه، وتكتبه منذ سنوات حول موضوعة ما. وتلك النوافذ تمنحك خيارات لكي لا يكون نصك واحدا. «يوميات مضادة». وهذا ليس تبريرا لأنها تبقى وجهة نظر خاصة لكلينا، كانت إسقاطا لطريقة موت جديدة، قاسية ومؤلمة. فليس التفجير والذبح وقطع الرأس فقط، صور للقتل المجاني، بل كذلك الاختناق والتعفن داخل مقطورة شاحنة. كما حدث للمهاجرين السوريين في طريقهم إلى ألمانيا. خاتمة القصيدة تعكس الفوضى السياسية ومنطق الحروب الذي لا منطق له. أما قصيدة «فراشة جبران» فهي لقاء متأخر بقصة حب لم تكتمل، وارتبطت ببداية الألفية.
■ تحاول في كل قصيدة من مجموعتك الأخيرة، أن تشكل الواقع تشكيلا آخر. أنت تبقيه سوداويا، ولكن توهمنا أنه ليس كذلك. في كل مرة كنت أستذكر مقولة فرويد «الحقيقة رغم ادعاءاتنا قلما ترضينا»؟
□ للإجابة على سؤالك هذا، أعيدك إلى عتبتين مهمتين، عتبة الإهداء إلى ابني إياد «هي مأساة أبيك وملهاته» في إحالة لمقولة ماركس عن التاريخ. وعتبة ثانية هي مدخل المجموعة بمقولة الشاعر خوسيه إيميليو باتشيكو «سلفا نحن أغرقنا المستقبل في هاوية تنفتح كل يوم». لم أحاول إبقاء الواقع سوداويا، لأنه كذلك دون رتوش ولا لعب لغوي أو تشكيلي. أتذكر سؤال أحد المسؤولين الألمان لبيكاسو عن لوحته «غارنيكا» «هل أنت من قام بهذا»؟ وكان يقصد اللوحة التي عكس فيها الفنان نظرته الفنية تجاه ما حدث لقرية غارنيكا التي قُنبلت عن آخرها، فأجاب بيكاسو: «لست أنا، بل أنتم». هكذا هي عدسة المبدع في ظني، تلتقط الواقع الذي يراه الجميع متشابها، وهو ليس كذلك. الفرق يكمن في التفاصيل، في كتابة ما محاه الزمن، في محاكاة الحياة بعبثيتها، دون الوقوع في كليشيه الاستعادة المجانية. هناك انحياز للجسد والحب والتمسك الوحشي بالحياة، رغم كل العتمات. الشاعر الميت يمارس كل رغباته وأحلامه المنتهية.. هناك أعطاب يستحيل على الزمن إصلاحها. عن أعطاب الروح أتحدث.
■ لماذا نشعر بأنك منفصل عنك وأنت تكتب، شخصيا لا أصدق أنك تكتب عنك، بل تختلق شخوصا أخرى وتكتب روحها. هنا يظهر تجاوزك في اعتقادي الى السرد. ليست مسألة لغة فحسب؟
□ بالحديث عن السرد، أعتقد أنني أحاول كتابة قصائد مادتها النثر وغايتها الشعر، متكئا على مقولة عملية للشاعر تشارلز سيميك: «كن موجزاً وأخبرنا بكل شيء». هذا ما يجعل الحكاية حاضرة انطلاقا من الذات، وإن تعددت صورها، فذلك نوع من التمثل الذي يحقق المشترك الإنساني، خاصة في لحظة زمنية يكون فيها الموت المتربص الوحيد في آخر الشارع، ليست الحرب ما يهم، بل قصص الحرب، ذاكرة الناس وربما كل ما هو عرضة للنسيان والإهمال والتزييف. في الأخير تظل الحقائق الأدبية هي الحقائق الأكثر صدقا. ومكمن عظمتها في هشاشتها، وقدرتها على قول الكثير من الأشياء في مساحة صغيرة. أعتقد أننا لم نفلح بعد في كتابة ذواتنا شعريا، بما يجعل المتلقي يمسك ذاك الخيط الرفيع بين الحقيقة والخيال. العالم بحاجة دائما إلى التعرية، الكتابة فعل فضائحي، يكتشف الإنسان بضعفه وهمجيته وكيف يكون سببا مباشرا للدمار على أكثر من مستوى. هي مرايا متشظية يمكن أن تعكس ملامح الكثيرين ممن عاشوا هذه التجربة أو تلك. وحتى الذين لا علاقة لهم بها. القصيدة هنا، تشبهني في انحيازي للهامشي والعابر والمهمل والعادي حتى وهو يدعي غير ذلك. أظن أن المتن لم يبق مجالا للحرية وحرية الإبداع، ولا يمكن مجابهته إلا بمعول اللغة والجرأة على اقتحامه بأفكار ورؤى شعرية وإبداعية لا أتنازل عن ذاتها، وهي تنتصر لمن قال «لا» في وجه من قالوا «نعم». وتدفعك لتتمسك بعبارة أمل دنقل: «لا تصالح».
■ ما السبب في تناولك موضوع الحب بمنظور لا تفاؤلي من خلال اشتغالك على ثيمتي الفناء والعدم؟ هل لأنك تعتقد انه الخلاص من التيه الذي نشعر به في معظم أشعارك، أم طريقة لترتيب مكتب يستحلي الفوضى؟
□ سأقتبس من تشيزاري بافيزي ما كتبه في الصفحات الأخيرة من يومياته: «إننا لا ننتحر بسبب الحب من أجل امرأة، بل ننتحر لأن الحب، أيّ حب، يكشف عُرينا، وبؤسنا. يُظهرنا عُزّلا وسط العدم». الكتابة، كما الحياة، لا أعتقد أنها تقبل بأنصاف الأشياء. فإما الذهاب إلى أقصى ما يمكن، أو الدوران في المكان نفسه. الفناء والعدم بوابتان مفتوحتان على احتمالات لا تنتهي ومنهما يستقي الحب شكله الأكثر وحشية ودماراً. أتذكر أخيل أثناء ممارسته الحب مع حارسة المعبد بياتريس وهو يقول لها: الآلهة تحسدنا لأن كل لحظة نعيشها محكومة بالفناء. وهنا تكمن عظمتها. لا يتعلق الحب في الكتاب بعدم التفاؤل فحسب، بقدر ما يروي سيرة عاشقين ميّتين يبحثان عن خلاص شعري لا يضع حدا للتيه ولا يرتب الفوضى التي هي أحد إنجازات الإنسان المجنونة في هذا العالم.
■ سيرتك الذاتية تؤكد أمرين: الأول أنك في الجزائر شاعر ملعون، والثاني أنك في الغرب بشكل خاص تشبه «بوذا صغير يقضم تفاحة»، أيهما أنت بالتحديد؟
□ إذا كان هناك من إلزامية للاختيار فأنا شاعر ملعون في الجزائر، ذلك أن اللعنة إحدى مقتضيات العيش في بلد يسلب منك الكثير وتواجهه بأن تقدم للكتابة والحياة والحب والصداقة أكثر، هي وطننا الخاص بعيدا عن وطن يضيع منا كل يوم. وسنظل نقضم تلك التفاحة طالما هناك حرية وشغف وعدم إيمان باليقين المطلق.
في سطور:
خالد بن صالح، شاعر وتشكيلي جزائري، مواليد 1979. صدر له ديوان شعر «سعال ملائكة متعبين» عام 2010، ليتبعه سنة 2012 بمجموعة شعرية ثانية بعنوان «مئة وعشرون متراً عن البيت». وآخر إصداراته في الشعر «الرقص بأطراف مستعارة» سنة 2016. حاضر منذ 2006 في مختلف الملاحق الأدبية الجزائرية والعربية وينشر جل قصائده وآرائه في مجلة «أوكسجين» الإلكترونية.
(القدس العربي)