الجزائر… من قراءة الأدب إلى محاكمته

سعيد خطيبي
«الأدب في خطر».. عنوان كتاب تزفيتان تودروف، يجد مكاناً له في الجزائر، حيث تجتمع كلّ المسبّبات ليتحوّل الأدب من نصّ للقراءة إلى بيان لمُحاكمة الكتّاب. ففي الأعوام الماضية، تعرّض بعض الروائيين لمُحاكمات أخلاقية، أُثيرت مُساءلات ضد كتاباتهم، وحاول البعض التضييق على حرياتهم و«شيطنتهم» وتحريض القارئ ضدّهم. عانى ياسمينة خضرا من الأمر نفسه، عقب صدور روايته «الاعتداء» (2005)، التي تحدّث فيها عن مظاهر العنف، وما يترتّب عنه من عنف مضادّ، بين فلسطينيين وإسرائيليين، ثم حوكم مرّة أخرى، بسبب روايته «فضل الليل على النّهار» (2008)، بسبب ـ ما اعتقده البعض ـ مواقفه المُهادنة في التّعرض للثّورة الجزائرية، وميله في التعاطف مع الأقدام السود. ومنذ أربع سنوات، يُلاقي كمال داود حرب تشويه، غير مبرّرة، وصلت حدّ المساس بحياته الشّخصية، بسبب روايته «ميرسو، تحقيق مضادّ» (2013)، بحكم أن انتصاره لألبير كامو هو انتصار لتوجه أيديولوجي كان يُعارض استقلال الجزائر.
وقبله كانت مليكة مقدّم قد لامست جرحاً عميقاً في جسد الجزائر الذّكوري، أيقظت حرس النوايا ضدّها وكتبت بكل جرأة رواية «رجالي». لكن الكاتب الجزائري، الأكثر تعرضاً للتّجريح، للطّعن وللمحاكات الأخلاقية، في الجزائر، فهو – للمفارقة – الكاتب الجزائري الأكثر نجاحاً في العالم: بوعلام صنصال. هذا الأخير صار هدفاً لكل خطابات الكره، في البلد، غير مرغوب فيه، والأسوأ من كلّ ذلك، أنّه يُحاكم من أناس، ومن تمثيليات دينية، ومن طوائف ثقافية محسوبة على اليسار، بدون أن يقرأوا له، بحكم أن رواياته لم يترجم منها إلى العربية سوى رواية واحدة «رواية قسم البرابرة»، كما أن أعماله ليست متوفّرة، بشكل واسع، في مكتبات الجزائر، وقراءتها ظلّت محصورة في نخبة وفئة محدودة من المُطّلعين على الأدب. هكذا إذن، خلف ستار المشهد الأدبي، بعيداً عن الصورة الإيجابية «المُخادعة» التي تعكسها الواجهة، في الجزائر، تجري عمليات مُحاكمة مستترة ومستمرة، وتنمو خطابات تجريح في الخفاء، بأصوات مرتفعة أو منخفضة أحياناً، تستهدف كتّاباً، يُحاسبون على ميولهم الأخلاقية أو القومية أو الدينية. وبدل أن يهتم بعض القراء بالاطلاع على أعمال الكتّاب، وأن يمارسوا حقهم في نقدها ومقاربتها الأدبية، يصرون على «طمس» النصّ وتأويل نوايا الكتّاب والنّبش في خياراتهم الفكرية والسياسية.
منذ حوالي عشر سنوات، تعوّدت جرائد جزائرية على التّعليق على تصريحات الرّوائي بوعلام صنصال (1949) وخرجاته الإعلامية، أكثر من التعليق على رواياته ونجاحاته في أوروبا، كما تعودت بعض الجرائد على «شيطنة» الرجل، من دون أن تُحاول فهم وجهات نظره، وصار بوعلام صنصال، تدريجياً ومع الوقت، في نظر بعض الجزائريين، مرادفا ﻟ«عميل» تارة، و«عدو» للتّاريخ وللوطن تارة أخرى. تناسوا وظيفته كاتبا وروائيا يدور في حلقات المتخيّل، وحملوه دوراً لا يتناسب مع طبيعة وظيفته الأساسية.
قبل عام من الآن، عقب الاعتداء الإرهابي الأخير، في نيس الفرنسية، كتب بوعلام صنصال مقال رأي في جريدة «لوموند»، عبّر فيه عن غضبه من تكرّر العمليات الإرهابية، في الفترة الأخيرة، ثم «انزلق» نحو تشبيه عملية نيس بالعمليات النضالية، في الجزائر، سنوات حرب التّحرير، شبّه، في لحظة اكتئاب أو غضب أو سوء تقدير، العمليات الإرهابية لـ«داعش»، بالعمليات النّضالية في الجزائر، التي كانت تستهدف النظام الكولونيالي وعسكره، ما فتح باب «ردود» لم تنته، لحد الساعة، وربما لن تنتهي، في المستقبل القريب، ضد الكاتب نفسه، وسخطاً في الأوساط المثقفة، والشعبية في الجزائر، وذهب البعض إلى اتهام الكاتب بالتحامل على شهداء البلد. ربما يكون صنصال قد استوعب الخطأ الذي وقع فيه، تراجع عنه ولم يصرّ عليه، لكن تراجعه عما كتب لم يغير شيئاً من «الحقد» المُبالغ فيه، الذي يتعرّض له في بلده.
منذ روايته الأولى «قسم البرابرة»(غاليمار، باريس 1999)، لم يتوقّف بوعلام صنصال عن إثارة الجدل في الجزائر، وبلغت ذروة «كتاباته المستفزّة للعقول» في رواية «قرية الألماني» (غاليمار، 2008)، التي حكى فيها عن ضابط نازي سابق، يفرّ من ألمانيا إلى تركيا، ثم إلى مصر، ويُرسله جمال عبد النّاصر إلى الجزائر، ويصير قائداً في الثورة التحريرية، وكانت تلك الرّواية بالذّات لحظة حاسمة في «قطيعة» صنصال المعلنة مع مقدسات التاريخ في بلده الأم، وسبباً في كلّ ما يتعرض له من محاكمات أخلاقية في الجزائر.
من المعروف أن تاريخ الجزائر يمثل واحداً من «التابوهات»، التي تُناقش غالباً، بحذر وريبة، ووفقاً دائماً للروايات الرسمية، ولم يتعود الجزائريون على الطّعن في المُسلّمات، ولا على إعادة التفكير في المسكوت عنه في الفترة الممتدة من 1954 إلى 1962، وكلما اقترب كاتب أو سينمائي من تاريخ الثورة، من وجهة نظر جديدة، وجهت إليه انتقادات، وتعرض للّتشويه، والادعاءات والشائعات. كما إن ما جاء من بنود في قانوني الكتاب والسينما في الجزائر، وضع خطاً أحمر، في وجه كلّ كاتب أو سينمائي يحاول أن «يجتهد» في موضوع ثورة التّحرير، أو يقدم مقاربة ذاتية للأحداث التي عرفتها البلاد آنذاك.
قبل سنوات، كان الروائي أورهان باموق قد بعث نقاشاً جادًا في بلده حول ضرورة الإقرار بجرائم الأتراك ضد الأرمن، خلخل باموق القناعات، لكنه لم يتعرّض لعداء من أبناء وطنه، بل هناك من احتضنه من الأتراك وساند رأيه، وبعده كانت الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش قد أدانت النّظــــام السوفيـــيتي السّابق وندّدت بجــــرائمه في بلدها الأم، ومع ذلك لم يتطاول عليها أحد من مواطنيها.
لماذا إذن كلّما أعاد بوعلام صنصال، أو غيره من الكتّاب الجزائريين، مُساءلة تاريخ البلد الحديث يجد نفسه خصماً لمواطنيه؟
علاقات الكتّاب الفرانكفونيين مع أبناء وطنهم في الجزائر كانت، تاريخياً، تشوبها شكوك وتوهّم وحذر، وكثير من هؤلاء الكتّاب أسيء فهمهم بسبب تأويلات جزئية لكتاباتهم (رابح بلعمري مثلاً)، وبوعلام صنصال لم يشذ عن القاعدة، رغم أنه ليس بموهبة كتّاب آخرين، وليس في مقام «معلّمـــه» رشيد ميموني (1945)، لكنه امتاز عليــــهم بوعيه التّاريخي العميق، فهو لا يهتم في رواياته بالكتابة في الجنس أو في التّفاعل مع راهنه، بشكل مباشر، بل يهمّه أكثر إعادة بعث أسئلة الماضية، التي تجاهلها كتّاب آخرون، فما تثيره روايات بوعلام صنصال وتصريحاته الصّحافية من أسئلة كان يجب أن تُطرح وأن تُناقش قبل وصوله بسنوات، هو لا يقوم سوى بترميم الذّاكرة باستفزازها، وتنشيطها بمراجعة ما حصل، وتخيّل سيناريوهات أخرى لما كان يجب أن يحصل في بلد المليون ونصف المليون شهيد.
بوعلام صنصال لا يقوم سوى بردم حفر من ذاكرة الجزائري، الذي يقفز على تواريخ مهمة، من ماضيه، بدون توقف عندها أو مُساءلات منطقية عنها.
بوعلام صنصال يطرح أفكاراً وآراء، قد يبدو ظاهرياً متحاملاً على بلده وعلى تاريخ ثورة شعب، لكنها في العمق أفكار وآراء في فائدة الماضي، يُراد منها الخروج من بوتقة التّقديس المجاني للأشخاص وللأحداث، ودعوة للتّفكير في الأسباب والعلل التي أوصلت الجزائر إلى ما وصلت إليه اليوم من انغلاق على الذّات، وتوجّس من الآخر.
لكن، في ظلّ الوضع الحالي، وما تعرفه الجزائر من تهجم غير مبرّر ضد من يخرج عن القناعات، يبدو أن كلمات صنصال ستنتظر طويلا لتجد آذانا تنتبه إليها وتناقشها بهدوء. فمع كلّ واحدة من رواياته، لا يجد قارئاً له، بل «قاضياً» بالدّرجة الأولى، أو «مفتياً» أو «مُكفّراً» يُحاكمه على نواياه وليس على نصّه، ثم من الغرابة أن تنتقل «كراهية صنصال» من قراء عاديين، إلى مثقفين، يحسبون على اليسار، يتقاطعون مع إسلاميين، في رفض مناقشة صنصال، ودفعه إلى خانة «التّجاهل»، كما لو أن الجزائري مُصرّ على عدم مواجهة ماضيه، وغير مقتنع بتقبّل خطايا وقع فيها، وربما ستكرر ـ مجدداً ـ في المستقبل، ويكتشف ـ متأخراً ـ أنه ضيّع عقودا في معارك دونكيشوتية، ولم يتصالح مع تاريخه، بكلّ سلبياته ومحاسنه، في الوقت المناسب.
(القدس العربي)