الروائي المصري محمد داود: المفاهيم التي تأسس عليها العقل العربي منتهية الصلاحية

محمد عبد الرحيم
بداية من روايته الأولى «قف على قبري شويّا» مرورا بكل من «السما والعمى»، «فؤاد فؤاد»، «أمنا الغولة»، «بار أم الخير»، وصولا إلى «صخرة بيتهوفن» الصادرة هذا العام، يبدو الصوت الروائي المختلف للمصري محمد داود، من حيث اللغة والعالم الذي يسعى إلى تأسيسه من خلال شخصيات تبدو من بعيد عادية، ولا تمتلك إلا بطولات أحلامها وكوابيسها بمعنى أدق، هذه التي تقودها دوما إلى مصيرها المحتوم.
يحاول داود نسج مشهد روائي طويل، يمكن النظر إليه من زوايا متعددة، لكن رغم عبثية هذا العالم، نجد ما يُسمى بالواقع أكثر عبثية ورعبا مما نظن، هذا العالم الروائي نتاج قيم اجتماعية مشوهة، ونفسيات محكوم عليها دوما بالضياع والعزلة. عن هذه الأعمال وخلفياتها الفكرية والاجتماعية كحالة من الوعي الجمعي المصري، كان لـ«القدس العربي» هذا الحوار مع الكاتب.
■ بداية تبدو معظم شخصياتك وكأنها تحمل إثما مجانيا، سواء شخصية حافظ بهجت في روايتك الأولى «قف على قبري شويا» وحتى رجل الرصيف في «صخرة بيتهوفن».
□ هذا صحيح إن كان القصد من تعبير «الإثم المجاني» أن الوجود في حد ذاته مأزق، أو حزمة من الأسئلة التي ينبغي على كل إنسان الإجابة عنها، ومعظم الناس تتبنى الإجابات السائدة في المجتمع الذي تتربى فيه، بمظنة أنها الإجابات الصحيحة، بينما على الإنسان تفعيل ذاته بتقديم إجاباته الخاصة على أسئلة الوجود، التي هي صعبة كامتحان مفاجئ دون سابق مذاكرة أو تحضير.
■ سمة الانتقام بالسخرية من الشخصيات، وانتقال هذه الحالة إلى القارئ، أن يصبح بدوره محل انتقام، اللعب على توريطه.
□ للسخرية أغراض فنية مختلفة، قد تكون طريقة لتخفيف وطأة المأساة، أو التعبير غير المباشر عن حيرة كامنة، ويجوز أنها انتقام أيضا على نحو ما، وقد تسهم في توريط القارئ، إنها على كل حال وسيلة وليست غاية في ذاتها، وتبدو سمة في أسلوبي الروائي سواء على مستوى لغوي أو على مستوى البنية السردية.
■ هناك مفارقة ملحوظة في رواياتك، وهي أنك تحاول تحريرهم من سلطة وهمية يعيشونها، لكنك في الوقت نفسه تمارس سلطة الراوي العليم، وكأنهم تحت مجهر فحص.
□ الراوي العليم مجرد تقنية روائية، ولا تعني ممارسة سلطة إلا في الكتابة التي تُفرض فيها الرؤية على النص أو تتحكم فيه، أما حين تنبثق الرؤية من النص، فيبدو وكأن الشخصيات تتحرك بمحض إرادتها وتفرض نفسها حتى على المؤلف، ولي تجارب مختلفة، استعملتُ الراوي العليم بضمير المفرد في روايات «قف على قبري شويا»، و«فؤاد فؤاد»، و«أمنا الغولة». أما في «صخرة بيتهوفن» فالراوي بضمير الجماعة. وأما روايتا «السما والعمى»، و«بار أم الخير» فالراوي بضمير المتكلم. وفي كل حال ينبغي على الكاتب أن يكون «عليما» بما يكتب، وما الضمير إلا اختيار فني حتى لو كتب العمل بضمير المتكلم الذي لا يعرف كل شيء.
■ هناك إيحاء ما بأن أعمالك المختلفة تبدو وكأنها رواية واحدة طويلة، مهما تباينت الشخوص والأحداث.
□ نعم، هناك تباين في الشخوص والأحداث؛ تقع أحداث روايتي الأولى «قف على قبري شويا» في المدينة وتستقصي حياة أفراد أسرة مصرية في نحو أقل من يوم. وفي روايتي الثانية «السما والعمى» تتناول الأحداث مساحة زمنية مطولة لشخصية من أطباء الريف منذ صباه حتى الشيخوخة. وتناقش روايتي الثالثة «فؤاد فؤاد» حياة إنسان يكتشف فجأة أنه لم يعش تقريبا، وقد انقلت منه العمر ويفيق حين يناديه الناس جميعا: يا حاج. وفي روايتي «أمنا الغولة» هناك مجموعة من بائعي البطاطين المتجولين يهبطون قرية ليتغولوا على أهلها ببيع بطاطينهم الرديئة بأسعار كبيرة، فتصيدهم غولة وابنها، وفي رواية «بار أم الخير» هناك عالم فانتازي كامل عن شخصية متعددة الأرواح تفقدها مع مواقــــــف الحياة.
وفي «صخرة بيتهوفن» هناك رحلة بين مدينتين لنحو17 شخصية محشورين في ميكروباص. رغم هذا التباين في الموضوعات والشخصيات فلا أختلف عن أي روائي، كل كاتب إنما يكتب رواية واحدة، ما دامت له رؤيته الخاصة التي تتسرب لأعماله وتتخذ أشكالا مختلفة.
■ ماذا عن تجربة الكتابة بالعامية في رواية «بار أم الخير»؟
□ أتمنى تكرارها، استمتعت بكتابة هذا العمل، إنه يمثلني شخصيا على نحو ما، الحديث يطول والمجال لا يتسع للحديث عن تفاصيل هذه التجربة، خاصة أنها تقود مباشرة لحديث اللغة المرتبط فورا بأسئلة حساسة في الثقافة والعقل المصريين، لعل أهمها سؤال الهوية.
■ منذ فترة ومن خلال مقالاتك تحاول النبش في أساطير الوعي الجمعي المصري، الأساطير الدينية في الأساس، كيف ترى حالة هذا الوعي الآن؟
□ هناك الكثير مما ينبغي نقده ومساءلته في ما بعد عواصف الربيع «والرجيع» العربي، المسافة عندنا منعدمة تقريبا بين العقل والدين، ومشكلتنا في مصر عقلية أساسا، العقل هو منتج الحالة في الواقع، هو منتج التخلف بأعراضه وأولها الفقر والاستبداد، ولن يكون آخرها الإرهاب، هناك تأسيس معرفي للعقل العربي عامة والمصري خاصة على مفاهيم ما قبل القرون الوسطى، وواقعنا استحقاق لمسيرتنا العقلية، مجمل المفاهيم التي تأسس عليها العقل منتهية الصلاحية وينبغي نقدها ومساءلتها. نستطيع القول بلا تردد العقل العربي مات، وما تراه حولك علامات التعفن، أستعير هنا مقولة صديقي المثقف عمرو الشامي: عقل جديد أو الكارثة. نحن بعقلنا الحالي نسير نحو كارثة محققة.
■ هناك اختلاف في نبرة الخطاب في ما تكتبه على صفحتك الشخصية في الفيسبوك، ومقالاتك الصحافية المنشورة، وأخيرا في الندوات العامة.
□ يمكن تفسير ذلك بأن لكل مقام مقال، يهمني جدا الفصل بين الخطاب الفني والخطاب الفكري، الرؤية هي سر ما ينبغي من تكامل بين هذا وذاك من منابر التعبير، أو ما يجمع بينها، ربما كان هذا الأمر كالروايات المختلفة في الموضوعات والأحداث والأسلوب الفني، لكن تجمعها رؤية شاملة واحدة.
■ كيف ترى دور السلطة السياسية والدينية في هذا الأمر؟
□ أظن سؤال اللحظة في مصر هو لماذا نحن متخلفون؟ وليس ما هو نظام الحكم الأنسب؟ مع ذلك العلاقة تبادلية بين الاستبداد والفساد العقلي. المشكلة السياسية عندنا أحد تجليات المشكلة العقلية، التي أظنها نتيجة تأسيس على مفاهيم منتهية الصلاحية. ولا حل للمشكلة السياسية ما دمنا بعقلنا الحالي الذي ــ صدق أو لا تصدق ــ يرى أن النموذج المثالي للحاكم هو المستبد العادل، المتحقق حسب رؤية العقل نفسه قديما في عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ويراه البعض قد تحقق حديثا في جمال عبد الناصر. الاستبداد مشكلة عقلية وإنتاجه مستمر على مستويات عديدة. السلطتان الدينية والسياسية وجهان لعملة واحدة، سعيهما تكريس الوضع القائم، وغفلتهما أن هذا الوضع ينذر بانهيار يشمل الجميع، ولا إصلاح للسلطتين من داخلهما، كما أن الإصلاح حسب نموذج الخريف العربي أثبت فشله. أظن البداية هي الانتباه لأصل المشكلة في العقل، وأرى أن وسائل الاتصال الحديثة تسهم بشكل فعال في ذلك.
■ عن طريق بعض المحاولات منك ومن الآخرين، فهل ستؤثر أصواتكم في ظل المناخ الذي نحياه؟
□ يقال عليك السعي وليس عليك إدراك النجاح. أقول دائما لنفسي أنبل المعارك هي المعركة الخاسرة. الرؤية التي أتبناها تبدو وكأنها متشائمة. لكن الظن بأن مشكلتنا سياسية تفاؤل غير موفق. كنت أتمنى لو أن المشكلة نظام حكم يتغير فتتبدل الأوضاع. المشكلة في العقل وهذا معناه أن الحل صعب؛ إن كان هناك خروج من مأزقنا الحضاري الحال فمؤكد أننا لن نعيش لنراه في أعمارنا القصيرة، نكتب روايات أدبية جادة لشعب غير قارئ أساسا، إحصائيات القراءة لدينا مخجلة، لكننا نكتب رغم ذلك، على الجميع أن يحاول دون انتظار التأثير.
■ هل تمتلك الشخصية المصرية مقومات تجعلها تتجاوز أزمتها الراهنة؟
□ إجابة هذا السؤال كامنة فـــــي مقــــترحاتي المتواضعة بالإجابات على الأســــئلة السابقة، الشخصية المصرية تعاني بشدة، وأتمنى أن تتجاوز المحنة الحالية، كلنا ينبغي أن نؤمن بإمكانية الخلاص، وألا نتوقعه سهلا وقريبا في الوقت نفسه، أرى أن الأمل واجب وحق أيضا، مهما كانت الظــــروف سيئة، والمسألة هنا ليست ترفا عقليا، إنها متعلقة بالوجود، حتى المصاب بمرض لا علاج له، لديه أمل في الشفاء والحياة.
(القدس العربي)