الرواية والتغيير… «فسيلة الحياة» لهاشم السيد أنموذجا

فاضل عبود التميمي
رواية «فسيلة الحياة» التي كتبها الروائي القطري هاشم السيّد، وقد صدرت حديثا عن دار حبر الشرق في باريس 2016 واحدة من أهمّ الروايات التي رصدت بدقة حياة القطريين في مرحلتي ما قبل اكتشاف البترول وما بعده، بوصفها رواية الكشف عن التحولات الاقتصاديّة التي أسهمت في تغيير نمط حياة الفرد والأسرة اجتماعيّا وثقافيّا بالإحالة إلى ما فيها من سرد ورؤى.
استهلّ الروائيّ متنه بنص جاء فيه: «في وضح رحلة العمر، أتقفى أثر المكان، للجذع أرض وغيمة وفي حياتنا نبت وتراب، ترفرف المواقف كمشاعر وأحاسيس فتنغرس فسيلة، وتنبت زهرة، وتتأصل جذور في المكان» كي يؤكد من خلاله تمسّكه بأبجديّة المكان الذي عاشت فيه شخصيّات الرواية، وهي تمارس حياتها في مرحلتين مهمتين من تاريخ الحياة في دولة قطر، فالرواية تحكي قصّة الإنسان القطري الذي ظل أمدا طويلا صابرا على جبروت الطبيعة، وضمور جماليّات الحياة، لكنّه كان على وعي بما هو فيه، إلى أن جاء التغيير كاسحا فاستعاد عافيته، وكان له أن صار مؤثّرا في بيئته، ومحيطة التي تنامت به ظواهر ثقافيّة متعدّدة.
اعتمد الروائي في صدر روايته مبدأ الميثاق الروائي حين كتب: «أيّ تشابه بين أسماء شخصيّات هذه الرواية، وأحداثها وأماكنها وبين الواقع هو تشابه الصدفة لا غير» ففي هذا الاستهلال القصدي الذي وضعه الروائيّ عتبة أولى أفضت إلى تلقي الرواية، وتأويلها توجيه يفهم من خلاله أن سردّ الشخصيات في الرواية مصدره الخيال لا الواقع، وهو- التوجيه- بمنزلة إعلان يفصح عن البعد التأويلي للميثاق الروائي الذي دوّنه تخيّل المؤلف ليمارس أعلى درجات الإيهام في وجه المتلقي بقصد تحجيم درجة تأويله، وتثبيتها عند درجة القبول بـ(صحة) ما جاء في الاستهلال، وكأنّه حقيقة لا غبار فيها.
أمّا المتلقي فليس له وقد تقبّل (تجربة) حياة مصدرها سرد الرواية، فضلا عن الواقع إلا أن يتأوّل ما في (الميثاق) من إيهام مقصود ليرى أنّ الرواية، وأحداثها استمدت عناصر تشكّلها من الحياة وليس من المصادفة، كما زعم منظرو الروايات، ومؤلفها أيضا حين ربط بين المصادفة، والأحداث وأسماء الشخصيات، فما بين إيهام المؤلف وتأويل المتلقي يتّضح نسق المقابلة مستمدا صيغته العليا من تعارض النيّات، وبزوغ عوالم تخيّليّة منسوجة برؤى افتراضيّة تشير إلى مقدار المفارقة التي تربط بين قصديّة المؤلف، واستقبال القارئ الذي سيؤمن حتما بأثر الواقع في انتاج «فسيلة الحياة» فضلا عن تخيّل الروائي الذي كانت مهمته إضفاء جماليات حلميّة على متن السرد المصوغ من نضح الحياة.
بُنيت الرواية وفق تشكيلة كتابيّة اعتمدت تعدّد الفصول وقد بلغت ثلاثة، كلّ فصل فيها ينقسم على عدد من الأجزاء، فالأول منها كان بجزأين، والثاني والثالث بأربعة أجزاء لكلّ منهما، لعلّ هذا التقسيم يشير بدقة إلى طبيعة التشكيل السردي ذي الخاصية الزمانيّة في محتوى الرواية ومضمونها التي اعتمدت في سردها المتناوب تمثيل حياتين مختلفتين من سيرة الشخصيّات، أي حياة ما قبل اكتشاف النفط التي زاد من إشكالاتها شعور ربّ الأسرة بعجزه عن إنجاب ولد يحمل اسم العائلة، فكأنّ شعوره ذاك تماه تامّ مع عقم الحياة، وسكونها التام، لهذا رسمت فاطمة أهمّ شخصيات الرواية، وابنة ربّ الأسرة صورة قريبة من الواقع حين قالت: «ارتدى والدي قافية الصبر، وتجلّد بقميص الحلم الذي رآه في تلك الحياة»، في إشارة واضحة إلى عمق المأساة التي كانت تعيشها عائلة (الخْفَيِّف) القطريّة وهي تحلم بإنجاب ولد يحمل اسم العائلة، ويكون مصدر رزق لها، فكان هذا الحلم مع أحلام الشخصيّات الأخرى المنفتحة على إشكالات العمل، ودخل الأسر أبرز معاناتهم التي وسمت فضاء السرد في الرواية زمنا ليس بالقصير.
لم تترك الرواية – وهذا جزء من قوّتها- الشخصيّات تعيش محنتها بمعزل عن الأمل فقد قُدّر للروائي أن يبعث الضوء – وهو في أول نفق السرد – على لسان أكثر من شخصيّة، تقول فاطمة وهي تتأمل شيئا تريده ان يأتي مسرعا: «نحن مثل البروق حتى لو اندثرنا سنطلّ من جديد كأنّ شيئا لم يحدث»، من هنا كانت رغبتها أن تعوّض حال العائلة ولو عن طريق الألعاب التي مارستها يوم كانت طفلة فقد اهتدت إلى صنع أنموذج مصغّر لبيتهم في الباحة الخلفية وقد جعلت «دمى الأولاد الذين حلمت بهم يشدون من أزر العائلة»، وهذا ما تحقق لها في ما بعد.
إنّ سكونيّة الحياة في الرواية لم تكن سمة عامّة في الفصول كلها، فقد بدأت تلك الصفة تضمحلّ شيئا فشيئا في وقت كانت المدينة: «تتلمس خطواتها الأولى آنذاك»، والمدينة هنا العاصمة (الدوحة) التي تخيّل الروائي لها سمة التجسيد، فهي تتلمس كما الكائن الحي خطواتها النهضويّة الأولى إيذانا لدخولها في عصر جديد سبرت أغواره الرواية نثرا لكنّه في مناسبات كثيرة كان نثرا من نمط آخر مضمّخ برائحة الشعر.
ولكي تسهم الرواية في إبراز التحولات الاقتصاديّة الجديدة في حياة القطريين فقد اتّخذت من شراء عائلة فاطمة سيارة أول مرة في حياتها مثالا للتدليل على بدايات التطور الاقتصادي في المجتمع القطري حين «راح الناس يتدافعون نحو السيارة، ويلامسونها، ويتفحصون ذلك الكائن الغريب»، لقد انعكس الوضع الاقتصادي الجديد على سلوك الناس، وبدت الحياة تبتسم للجميع «أصبحنا عائلة يتمنى الكثير من أهل القرية أن يصيروا جزءا منها، صار لدينا تجارة، ومحال وبيت وأرض وسيارة، قالت أمي إن بعض نساء القرية لمّحن لها برغبة أبنائهن بالزواج منّا».
لقد رصدت الرواية وسائل التغيير الاقتصادي الذي أصاب قطر جراء اكتشاف النفط والغاز وإنتاجه وتصديره، سواء على مستوى القاعدة التحتية للبلاد «تبدلت أشياء كثيرة شهدتها منذ عمر الطفولة إذ تراجعت المصابيح التي كانت تعمل بالزيت قبالة مولدات الكهرباء وهي تضيء كل شيء»، أو على مستوى الشخصيّات التي تبدل سلوكها، وتبدّلت ثقافتها أيضا، ففاطمة بسبب التغير الاقتصادي دخلت الجامعة لتدرس الأدب العربي لكنها بسبب مسؤوليّات الأسرة لم تكمل مشوارها، وبرق حصل على شهادة عالية في الاقتصاد ليصبح رئيس شركة تجارية لها فروع في العالم، ومريم أصبحت مدرّسة للغة العربيّة، وجاسم صار بروفيسورا يحمل أعلى شهادة في الطب. لقد سبرت رواية «فسيلة الحياة» تاريخ مدينة كانت قد بدأت أولى خطواتها على طريق التحديث؛ ولهذا كانت رغبة الروائي كبيرة وهو يحاول تمثيل حالتها الأولى أعني سكونيّة الحياة في ظل اقتصاد صحراوي جامد شقي فيه الأجداد، والآباء كي يعطي صورة دقيقة عن الحياة وهي تمتدّ من شكل إلى آخر دون أن ينسى أن الرواية فنٌّ يستجيب لمتطلبات الجمال والتاريخ معا.
إنّ التحديث الذي أصاب الحياة فيما بعد أدركته الرواية متلازما مع تحديث روح الإنسان، وسلوكه الذي كان ذا تأثير فعال في المجتمع قصد اللحاق بالآخر الذي قطع أشواطا بعيدة في مضمار الحضارة، من هنا يمكن لمتلقي الرواية أن يتفهم النقلة الأساسية في الحياة الثقافية التي أصابت الشخصيّات، فضلا عن تحوّل القرى التي صارت بحكم الضرورة مدنا لها ما يسوّغ وجودها على الأرض.
(القدس العربي)