الساحة الثقافية المغربية تودع القاص والروائي محمد غرناط

الطاهر الطويل

برحيل الأديب محمد غرناط، أول أمس السبت، تكون الساحة الثقافية المغربية قد ودعت واحدا من رموزها، الذين جعلوا النص السردي تجسيدا لقلق الأسئلة التي يطرحها الواقع المجتمعي، بتشعب قضاياه ومشكلاته، وأيضا لمظاهر الحياة الإنسانية والسلوكات البشرية المتباينة، في منظور إبداعي حداثي ومتجدد.
وأصدر اتحاد كتاب المغرب، نعيا أشار فيه إلى أنه تلقى بأسى وحزن بالغين، نبأ وفاة عضو الاتحاد، الروائي والقاص المغربي محمد غرناط، السبت 29 تموز/ يوليو، بعد صراع مع المرض لم ينفع معه علاج.
والراحل محمد غرناط من مواليد عام 1953 إقليم بني ملال. حصل سنة 1989 على دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في فاس (جامعة محمد بن عبد الله)، امتهن التدريس في ثانوية ابن رشد في المدينة نفسها، كما عمل أستاذا جامعيا.
انضم الراحل غرناط إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1981، ويتوزع إنتاجه، رحمه الله، بين القصة القصيرة والرواية والمقالة النقدية. من بين الإصدارات القصصية للفقيد: «سفر في أودية ملغومة» (1978) «الصابة والجراد» (1988) «داء الذئب» (1996) «الحزام الكبير» (2003) «هدنة غير معلنة» (2007) «خلف السور» (2012)، «معابر الوهم» (1014). كما صدر حول أعماله القصصية والروائية كتاب جماعي من تنسيق بوشعيب الساوري، ضمن منشورات القلم المغربي 2017 بعنوان: «معابر التخييل الروائي والقصصي، في التجربة السردية لمحمد غرناط».
في مجال الإبداع الروائي، لمحمد غرناط رواية بعنوان «متاع الأبكم» (2001) وتحكي عن فصل من حياة «مروان» الذي يعمل في شركة تأمين، لكن راتبه لا يحيط بمتطلبات العيش رفقة زوجته، فأجل الكثير من الأحلام، مراهنا على قطعة أرض كإرث عن أمه. وهو ما دفعه إلى العودة لبلدته الأصل (العامرية في الرواية). في البلدة سيقضي فترة من الزمن صحبة أقربائه وأصدقائه بين ذاكرة المكان وتمظهره الراهن، يطالب فيها بأرضه المعرضة لسطو الخال الذي ساومه بمقابل مالي ؛ لكن مروان رفض ذلك وعاد إلى المدينة بدون أرض. هناك سيتخلى عن زوجته (الخائنة) ويتيه طاويا على ذاته وخيبته.
ومن ضمن نصوص غرناط الروائية المميزة أيضا رواية «الأيام الباردة» التي اعتبرها الناقد والأديب حسن إغلان «رواية المفاتيح»، حيث لاحظ أن الرواية تبدأ من آخرها، لأن الصفحة الأخيرة هي عتبة الرواية، ترسيمتها الرئيسة، وهي بهذا المعنى تكتسي أبعادا متعددة، ليس من قبيل الأمكنة والأزمنة التي نرغب فتحها، بل في جعل المقبل والمستقبل عبورا نحو فتحه. إن مفتاح الرواية يتحدد من هنا، من صفحاته الأخيرة، لكن بين الصفحات الأخيرة والغلاف/ عنوان الكتاب مسافة تأويلية تدع قارئ الرواية متوترا، ومتحفزا نحو الربط الدلالي بين هذين البعدين، بعد أن يلتقيا ويختلفا. وإن كان عنوان الرواية يحيل إلى وصف زمن الرواية، كزمن بارد ومثلج، فإن البرودة هنا ترمز إلى الزمن المغربي الحديث، الذي لم تعد فيه الحياة كما كانت في السابق ملتهبة وساخنة بالحب والمودة وما إلى ذلك. إنه زمن تتشظى فيه البرودة بين تلافيف اليومي والأمكنة، وشخوص الرواية. زمن يشكل فيه اللامعنى حدوده القصوى في المعنى. إن شخوص الرواية الملتفين حول المرأة، تتحدد وتتجسد في قلب العلاقة بين الذكورة والأنوثة، بين الرجل والمرأة، كأن سخونة حياة الرواية تبتدئ من الذكورة، وكأن هذه الأخيرة هي الضامنة لقياس البرودة والحرارة، ولأن الأمر كذلك فإن العلاقة بين البرودة والحرارة تنقلب لتكون المرأة، بما هي امرأة خائنة، وماكرة ومخادعة وشيطانة، فإنها تزرع هذه البرودة في سرديتها .ومن هذه الوجهة ـ يقول حسن إغلان ـ نستطيع مقارنة العلاقة بين الرجل والمرأة في الرواية بمنطق آخر، يضيء المعتم في الواقع المغربي الحديث، صحيح أن الدراسات ما بعد الحداثية تظهر أن المرأة هي منبع السلطة داخل المجتمع، بما أنها متحكمة ومتملكة للنظام الرمزي في ثقافة ما. بينما الرجل يحتفظ بسلطته القانونية البرانية .
أما روايته «حلم بين جبلين»، فهي ـ كما يسجل الناقد عبد الحق الميفراني ـ رواية تعيد نسج علاقات السارد بعوالمه الحكائية، نص ينتصر لقيم الحب، في وقت «الخراب الأسود»، الخراب الذي «ينهش أجساد الناس البسطاء هؤلاء من يملكون قلوبا بيضاء». رواية «حلم بين جبلين»، وقياسا للمنجز الروائي اليوم، تنسج عوالمها الحكائية من داخل سؤال الكتابة ذاتها.. فـ»عصام» الشخصية المركزية في النص الروائي، موزع بين حب امرأة تدعى «ميرة» وكي لا يفقدها فهو مطالب بكتابة نص روائي، وعليه أن يتوج غلاف نصه بـ»وجهها» الباهي.. في رحلة البحث عن ميرة ينسج السارد علاقة بين عالمين: عالم «ميرة»، وعوالم «الرواية» حيث تنتهي بمقتل «ميرة»/الشبح، بينما يستعيد السارد شخصية «ميرة» التي التقاها في الطائرة بعد عودته من الجزائر. بين متاهات هذه الرحلة بين عالمين، تكشف رواية «حلم بين جبلين» حلما استعاريا بحب الرواية والأدب.
وبمناسبة صدور رواية «تحت ضوء الليل»، نظم اتحاد كتاب المغرب (فرع تمارة الصخيرات) قبل ست سنوات، لقاء احتفائيا شارك فيه الأدباء محمد الدغمومي ومحمد معتصم وأحمد حافظ، حيث قدم محمد غرناط ورقة حول لغة الرواية، مما جاء فيها: «موضوع اللغة طرحته على نفسي بشكل جدي حينما نشرت مجموعتي القصصية الأولى «سفر في أودية ملغومة» أواخر السبعينيات، وأنا آنذاك أبحث لنفسي عن أداة أنقل بها أفكاري ومواقفي، وفي الوقت نفسه أعرف أن ما ميز خليل جبران وطه حسين وعبد المجيد بنجلون وغيرهم من الرواد، وكذلك من المحدثين، إنما هو اللغة.. وحينما نشرت مجموعتي القصصية الثانية، سجل عدد من النقاد والقراء ملاحظات مهمة حول هذا الجانب، هذه الملاحظات جعلتني أزداد وعيا بمكانة اللغة ووظيفتها الجمالية والتعبيرية. صارت اللغة من مشاغلي الأساسية. صارت هما دائما. وبدأت تتبلور لديّ من خلال قراءاتي لكتاب ونقاد من مدارس مختلفة أفكار ورؤى حاولت أن أترجمها إلى واقع ملموس، سواء في قصصي القصيرة أو رواياتي من متاع الأبكم، إلى دوائر الساحل، وحلم بين جبلين، إلى رواية تحت ضوء الليل».
ومن خلال ممارسته الفعلية للكتابة، خلص الكاتب غرناط إلى اقتناع مفاده أن اللغة في الرواية لا يمكن أن تكون أحادية تقريرية نمطية، بل بحكم أن الرواية فن منفتح على الأنماط الأدبية والأفكار والمواقف على اختلافها، لا بد أن تكون لغة التعدد والتمثيل والوعي، أي أن تكون لغة أدبية مبنية على تنوع الملفوظات ووجهات النظر وتنوع الأفكار، وثانيا أن تجسد وتعرض الأفعال والأقوال بصورة تبدو معها الرواية كأنها تمثيلية تجري أحداثها أمامنا، فنرى الشخوص بألوانها وحركاتها المختلفة، ونسمع أصواتها وهي تتحاور وتتبادل الحديث في ما بينها، وثالثا أن تجسد ثقافة الكاتب ووعيه بالأسس الحقة التي تقوم عليها اللغة بما يقتضيه السرد الروائي وبناء الرواية بكل مكوناتها الفنية.
وتابع قوله: إن اللغة بهذه الخصائص تنفتح على قضايا الواقع الاجتماعي ومظاهر الحياة الإنسانية والسلوكات البشرية المتباينة، وبذلك تؤسس إلى جانب المكونات الأخرى إبداعا حقيقيا، حداثيا ومتجددا، ولعل هذا ما دفع ميلان كونديرا إيمانا بوظيفة الكتابة وأثرها إلى الاعتقاد بأن مؤسس الأزمنة الحديثة ليس ديكارت وحده فحسب، بل سرفانتيس كذلك الذي تكون معه فن الرواية وأخذ بعده مسارات متعددة ومعقدة قامت فيها اللغة الأدبية بأدوار أساسية. إن النصوص ربما تختفي أو تختفي بعض مظاهرها، لكن اللغة تبقى، فلغة بلزاك مستمرة بوضوحها وبلاغتها وانسجامها، ولولا ذلك ما كان ميشال بوتور وهو من زعماء حركة الرواية الجديدة ليظل عاكفا على دراسة تراثه الروائي إلى اليوم.
هاجس اللغة يشغل بال الكاتب الذي يعمل على إبعاد الغنائية السطحية عن روايته، وإبعاد الاطناب الذي لا يجدي والذي ربما يتحول إلى لغو غير مرغوب فيه أو إسهاب يضر بجمالية النص، كما يحدث في حوارات مطولة من دون مبرر أو مشاهد تعرض قضايا مباشرة أو تأملات ذاتية لا تخدم السرد وموضوعه. في هذه الحالة تبتعد اللغة عن وظيفتها الفنية وتفقد خصائصها الأدبية الجوهرية، وبدل أن تكون بالصورة والعبارة الفنية المحكمة تتحول إلى آلة باردة ثابتة منمطة خالية من الابتكار والتعبير الذي يتلاءم وأجواء السرد والكتابة. ولاشك أن هذا هو ما جعل كتابا يحذفون أجزاء من أعمالهم بعد مراجعتها كما فعل فلوبير عندما حذف أزيد من نصف روايته المعروفة «مدام بوفاري». وقد يكون هذا العامل وراء اللجوء إلى كتابة نصوص مكثفة بلغة فيها كثير من الاقتصاد والتركيز على نحو ما نجد في الفن القصصي والحوارات المسرحية القصيرة، ولنا في هذا المجال أسماء كثيرة من المشرق والمغرب.
ومما لا شك فيه أن مثل هذه اللغة تقود إلى إنجاز نص خال من الزوائد والتعليقات والتفاسير، التي تأتي نتيجة حضور أهواء الكاتب. أما إذا اختار أسلوبا سرديا تشخيصيا بعيدا عن الحكي المباشر ولغة الخواطر والرؤية المهيمنة التي لا تعتمد على سند فني لعرض الأحداث والشخوص، فإنه يعرف كيف يتعامل مع الواقع والإنسان والتاريخ وهو يحول كل ذلك إلى مادة فنية تشكل الكلمة أداتها الرئيسية.
ويعتقد غرناط أن الرواية المنفتحة بلغتها وبلاغتها الأسلوبية وتنوع منظوراتها وفضاءاتها التخييلية، هي الأقدر على استيعاب أسئلة الكتابة الروائية والإبداع الأدبي عموما، وكذلك الأسئلة التي يطرحها الواقع المجتمعي الذي تشكل قضاياه ومشاكله بكل تفاصيلها موضوعا أساسيا في الإبداع الروائي، لأنه النوع الأدبي، كما يذهب الباحثون إلى ذلك، الأقدر على التعبير عنه. ومن هنا يظهر أن اللغة ليست وسيلة للتعبير فحسب، وإنما هي أيضا طريقة لبناء النص الروائي ورص عناصره ومفاصله وأركانه.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى