«السالنامة» والأنظمة التعليمية في دمشق العثمانية

محمد تركي الربيعو
تعد سالنامة المعارف الصادرة عن وزارة المعارف العثمانية عام 1898 ولغاية عام 1903، أحد أهم المصادر لدراسة تاريخ التعليم في الولايات العربية العثمانية، إذ يمكننا من خلال هذه السالنامة رسم المعالم العامة للتعليم والثقافة بشكل عام في الدولة العثمانية، كما يمكننا من خلالها التعرف ليس فحسب على المؤسسات التعليمية في العاصمة، بل أيضاً على كل المؤسسات والمدارس التي أسستها الدولة أو الجهات الأخرى، حتى لو كانت في ناحية واقعة في جزء من أجزاء الدولة في آسيا وأوروبا أو افريقيا.
كما أنها تساعدنا بالإضافة إلى ما ذكر على التعرف على الأنظمة والتعليمات والقرارات المتعلقة بالمؤسسات التعليمية والثقافية والقائمين عليها، وعلى وظائف الإداريين في المدارس وشروط اختيار الطلاب وأشكال لباسهم في المدارس، وعلى معلومات تفصيلية حول مفردات المواد الدراسية المقررة في كافة المراحل الدراسية وبكل أنواعها، مع وصف الكثير من هذه المواد. تقدم لنا أيضاً أسماء المربين الذين تتلمذ على أيديهم معظم الذين تولوا مراكز مهمة في بداية تأسيس الدول العربية التي تأسست على ممتلكات الدولة العثمانية.
ووفقاً للمؤرخ العراقي فاضل بيات في سفره الضخم والمهم «المؤسسات التعليمية في المشرق العربي الراهن: دراسة تاريخية إحصائية في ضوء الوثائق العثمانية، مركز ارسيكا /اسطنبول) فإن الكشف عن هذه الوثائق الموجودة في الأرشيف العثماني وإعادة قراءتها، تساهم بشكل جدي على إعادة النظر من جديد بتاريخ التعليم في فترة التنظيمات العثمانية، خاصة أن هذه الفترة نُظِر لها بعين واحدة عبر الاستخفاف بكل جهود الجهاز العثماني الرسمي والتركيز بدلاً من ذلك على المدارس الأجنبية ومدارس الطوائف غير الإسلامية، من خلال رفع شأنها واعتبارها الأساس الذي بُني عليه التعليم الحديث في البلاد العربية قاطبة. كما أن أهمية جداول السالنامة تكمن بالدرجة الأولى في رصد كافة المنجزات المتحققة في مجال التعليم بدءاً من تولي السلطان عبد الحميد الثاني السلطنة ولغاية صدور السالنامة والتعرف على الجوانب المختلفة للمؤسسات التعليمية المختلفة وتواريخ تأسيسها. ولكن مما يُؤسَف له – حسب بيات – أن سالنامة المعارف توقفت عن الصدور عام 1903، والمعلومات الواردة في الجزء الأخير تغطي ما يتعلق بالتعليم لغاية عام 1902. لكن مع ذلك يدعونا بيات في هذا السياق ولاستكمال معلوماتنا حول واقع التعليم في دمشق إلى فترة 1914، الاطلاع على السجلات الإحصائية التي أعدتها وزارة المعارف على مدى ثلاث مراحل. وتتعلق المرحلة الأولى بالسنة الدراسية 1895-1896 التي نعثر من خلالها على إحصائيات دقيقة بخصوص المدارس الابتدائية والرشدية والإعدادية في الولايات المختلفة (وفي حالتنا مدينة دمشق)، مع بيان أعداد المدارس وأعداد الطلاب فيها من مسلمين وغير مسلمين وعدد المقيمين في القسم الداخلي وعدد المشمولين بدفع الأجور. أما الدليل الإحصائي الثاني فيتعلق بالسنة الدراسية 1912 ـ 1913 واتبع فيه المنهج نفسه المتّبع في الدليل الإحصائي الصادر بعد عام 1913-1914، وهو يقدم تصورات واضحة واحصائيات مهمة حول واقع التعليم في الدولة العثمانية بداية الحرب العالمية الأولى.
المدارس الرشدية في دمشق:
في عهد السلطان عبد المجيد (1839-1861)، ازدادت الحاجة إلى إجراء إصلاحات جذريّة في مدارس الصبيان بعد أن ثبت عدم قدرتها على إعداد تلاميذ للمدارس الإعدادية، لوجود فجوة كبيرة بين المواد التي تدرس في كلتا المدرستين، فتقرر تأسيس مدارس أعلى مستوى من مدارس الصبيان تحت اسم «مدارس الصف الثانية»، إلا أن السلطان لم يستحسن تسميتها بهذا الاسم، وطلب تغييرها إلى «المدارس الرشدية» باعتبار أن الدارسين فيها لم يبلغوا سن الرشد بعد. وقد حُدّدت مدة الدراسة في المدارس الرشدية في أول الأمر بأربع سنوات، ثم زيدت إلى ست سنوات، وفي عام 1863 قُلّصت إلى خمس سنوات. أما المواد الدراسية المقررة فيها في هذه المرحلة فكانت وفق ما ورد في تعليمات عام 1846 على النحو الآتي: القرآن الكريم، العلوم الدينية والعربية، الحساب والكتابة. وفي عام 1846 أُضيفت إليها مواد اللغة الفارسية والجغرافية واللوغاريتمات والهندسة. واقتصر القبول في هذه المدارس على الطلبة المسلمين فقط. واستمر هذا الوضع حتى عام 1867 حيث فتحت المدرسة أبوابها لغير المسلمين أيضاً. وبخصوص مدينة دمشق يرى بيات أن أول أمر صدر بتأسيس خمس مدارس في دمشق كان عام 1849، وقد أوردت سالنامة سوريا، بدءاً من جزئها الأول الصادر عام 1868 أسماء هذه المدارس ومواقعها وأسماء معلميها على النحو الآتي:
المدرسة الرشدية في الجمقماقية، ومدرسة الملك الظاهر باللوات، ومدرسة الملك الظاهر بالقبة ومدرسة الصالحية في دمشق ومدرسة الميدان، كما يرد ذكر اسم مدرسة الرشدية للبنات، التي تعد أول مدرسة رشدية لبنات تؤسّس في الولايات العربية، حيث افتُتحت عام 1886 م، وعُيّنت يومها لبيبة خانم لتكون أول معلمة أولى فيها. وبلغ عدد طالباتها في السنة الدراسية 1900 (140) طالبة. وما يلفت الانتباه في طبيعة المدارس الرشدية للبنات هو ما يتعلق بمواضيع هذه المدارس، وما كانت تقدمه من دروس تعليمية للفتيات، إذ لم يقتصر المنهج التعليمي – كما أشارت بعض الدراسات – على دروس النقش والتطريز والخياطة وبعض دروس القراءة والحساب، بل شملت أيضاً مبادئ العلوم الدينية، وقواعد اللغة العثمانية، ومبادئ العربية والفارسية، والإملاء والخط، والمنتخبات الأدبية، ومختصر التاريخ والجغرافية، والحساب وأصول مسك الدفاتر، والموسيقى أيضاً.
مع ذلك، فإن المشكلة التي عاناها هذا النمط الجديد من المدارس تمثّل في قلة أعداد المعلمين المؤهلين للتدريس داخلها، الأمر الذي كان يؤثر بشكل سلبي في المستوى الدراسي للتلاميذ، ولذلك لم يكن هناك من حل سوى تأسيس أول مدرسة لتأهيل المعلمين داخل المدارس الرشدية تحت اسم «دار المعلمين» عام 1848 في مدينة اسطنبول. وقد اقتصر المقبولون فيها على أهالي الروملي والأناضول، ولهذا فإن خريجيها كانوا يختارون العمل بعد تخرجهم في مناطقهم، ولا يرغبون بالذهاب إلى مناطق أخرى ومنها المناطق العربية. بالتالي عانت الوزارة كثيراً من توفير معلمين للمدارس الرشدية القائمة في البلاد العربية. وعلى الرغم من قيام الدولة بتشجيع وترغيب خريجي دار المعلمين في إسطنبول على العمل في المدارس الرشدية التي افتُتحت في ولاية سوريا، بما في ذلك منحهم مخصصات مالية إضافية، إلا أنها لم تنجح في إقناعهم بذلك، ولهذا قررت أن تقوم بتأسيس أول معهد للمعلمين في الولايات العربية داخل مدينة دمشق، قبل عام 1895 إلا أنها لم تتمكن من الاستمرار طويلاً، ليُعاد افتتاحها بعد فترة من الانقلاب العثماني عام 1908. وطبقاً لما ورد في الدليل الإحصائي لسنة 1912-1913 فإن عدد طلاب الدار بلغ في هذه السنة 95 طالباً. ومن المعلومات المثيرة للاهتمام في هذا السياق هو ما يتعلق بالأحوال المادية للطلاب، فقد ورد أن 4 منهم من أبناء علماء الدين المسلمين و11 من أولاد الموظفين و12 من أبناء المزارعين و14 من أولاد التجار و12 من أبناء الحرفيين. وهذا ما يؤكد أن التعليم في أواخر الفترة العثمانية لم يكن مقتصراً على شرائح اجتماعية معينة حسب، بل شملت كافة فئات المجتمع المديني آنذاك. في جانب آخر، نعثر ضمن سالنامة سوريا على مدارس جديدة داخل دمشق تم تأسيسها تحت اسم مدارس دار الإصلاح (الإصلاحخانة) عام 1871، وكانت الغاية من تأسيس هذه المدارس هي إيواء المشردين من الأطفال وتعليمهم حرفاً مختلفة كالخياطة وحياكة السجاد وصناعة الأحذية والموسيقى. وكان يقوم بتعليم هذه الحرف أسطوات (معلمون) ماهرون متخصصون في كل حرفة من الحرف. وكان الطلاب يقيمون في الدار، ولهذا وفرت الدولة لهم كل المتطلبات الحياتية اللازمة. وعندما تولى جمال باشا قيادة الجيش الرابع في سورية شمل المدرسة برعايته، وكان يرى أن هذه المدرسة تساهم في رقي الصناعة وازدهارها في البلاد، كما حث الأغنياء من التجار على مد يد المساعدة لها. وقد ورد في برقية رفعها جمال باشا إلى وزير المعارف في مايو 1917 أن أحد تجار بيروت وهو مصباح تحسين تبرع للمدرسة بمئة فراش وكمية من الخشب قيمتها 53 ألف ليرة عثمانية، وطلب جمال باشا تكريمه بوسام المعارف.
أما بخصوص المدارس الخاصة بالأقليات، فإن ما يذكره فاضل بيات في سياق قراءته للمصادر السابقة، هو أن القانون الأساسي الصادر عام 1876 أجاز للأقليات الدينية تأسيس مدارس خاصة بها تحت إشراف الدولة، وفيما يتعلق بسالنامة سوريا نعثر من خلالها على أسماء هذه المدارس وكادرها التدريسي وموادها الدراسية وأعداد طلابها. ولكن يؤخذ على هذه السالنامة أنها لم تفرّق بين المدارس الأجنبية والمدارس التي أسّستها الطوائف غير الإسلامية. ومن أهم هذه المدارس يرد ذكر مدرسة الأرثوذكس للذكور، التي تأسّست عام 1862 وحصلت على ترخيص رسمي عام 1894 وكان مديراها إلياس قدس أفندي وميخائيل أفندي كليلة، كما يرد ذكر مدرسة الروم الكاثوليك التي تولى إدارتها الخوري اقليمدنوس أفندي، وأيضاً مدرس العازارية ومدرسة راهبات العازارية ومدرسة دير سانطة في دمشق، وكان مديرها هو الأب سلفاتور أفندي. وكذلك نجد مدرسة للطائفة اليهودية كان الموسيو فوسكو مديرها.
وبخصوص المدارس الأجنبية، تمدنا سالنامة سورية بمعلومات وافرة تعود إلى عام 1883، إذ تنقل لنا أسماء المدارس الأجنبية مثل مدارس البروتستانت التابعة للجمعية الأيرلندية في دمشق، التي أدارها القس يوحنا أفندي وتكونت من خمس مدارس للذكور، عدد تلاميذها 1000 وعدد معلميها 5 ومنهاجها الدراسي للذكور يتكون من: التهجّي، القراءة، الكتابة، الجغرافيا، الإنكليزية، التركية، الفلسفة والهندسة. نعثر أيضاً على مدارس للبروتستانت تابعة للجمعية الإنكليزية في دمشق، تكونت من أربع مدارس مخصصة للبنات إحداها للعمياوات. ولم تقتصر المدارس الأجنبية على مدارس الجمعيتين الإيرلندية فقط، بل إننا نعثر في سالنامة سورية لعام 1902 على معلومات وافية ومستفيضة عن مدارس أجنبية أخرى مثل مدارس الفرنسيين أو المدارس الأمريكية للذكور في دمشق التي رُخِّصت باسم القس يوحنا كرادفورد وبلغ عدد طلابها 72 طالبا. وقد بقيت هذه المدارس تعمل داخل مدينة دمشق إلى فترة الحرب العالمية الأولى 1914، عندما قامت الدولة العثمانية بإغلاق هذه المدارس وطرد معظم العاملين بداخلها إلى خارج البلاد.
(القدس العربي)