«الكليشيه» في الفوتوغراف العربي ما بين التكرار والتجريب

محمد حنون

كثيرا ما نرى تسابقا محموما في التصوير الفوتوغرافي، وعلى مستوى الوطن العربي، في حقول فوتوغرافية، لم تعد مدهشة، سواء بسبب تكرار المشاهد نفسها أو الأفكار نفسها، أو من حيث أنه تم استنزاف المعطيات الجمالية والفنية، من الناحية البصرية وكذلك من الناحية البنيوية للفكرة وما يراد تقديمه من خلالها؛ فنرى ذلك ما بين التصوير الفوتوغرافي للغروب والشروق، وكذلك لصور الزهور والطيور، والرمال والصحراء والأماكن الأثرية وغيرها من الصور المطروقة وبشكل مكرر، التي تبدو بمجملها كاستنساخ لبعضها بعضا، دون أن يكون لأي منها هويتها الخاصة أو أسلوبيتها الخاصة، بالإضافة للموضوع الفوتوغرافي الذي حدث مؤخرا، والذي كان لصورة القمر العملاق، حيث سرت بسببه حُمى بين الفوتوغرافيين والفوتوغرافيات العرب، وهو الموضوع المتكرر دائما كلما صار بدرا وليس بالضرورة أن يكون عملاقا.
ليس أمرا مرفوضا هذا النوع من التصوير، ولكن المرفوض أو غير المُجدي هو تشابه الصور، وتشابه آليات التصوير، وتكرار المشهد نفسه في الصور حد الاستنساخ كما أسلفت، دون المحاولة للبحث عن شكل جديد وزاوية جديدة ومعطيات جمالية استثنائية للمشاهد هذه. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تصوير القمر العملاق الذي حدث مؤخرا، تجد قلة قليلة من المصورين العرب الذين تمكنوا من تصوير هذه الظاهرة الفلكية بشكل مختلف، ومن زواية مختلفة، معطية المشهد المتاح للجميع، خصوصية وشكلا جديدين، في حين أن ما تبقى من صور كانت تتشابه وكأنها التقطت من قبل مصور واحد، ناهيك عن لجوء البعض للتزوير في الصور هذه رقميا وتقنيا لتبدو استثنائية.
لست هنا بصدد التطرق للذي حدث على هامش هذه الحُمى من قبل عدد لا بأس به من الفوتوغرافيين العرب، إذ قاموا بالتلاعب رقميا بصورهم للقمر العملاق، وخرجوا بصور فوتوغرافية غير حقيقية ومركبة؛ سواء مع مشاهد للمدن التي يسكنونها، أو من خلال إضافة عناصر خارجية مع المشهد النادر، حيث وصل الأمر بأحدهم إلى تركيب صورة طائرة تمر من أمام القمر، وقد قام بذلك بشكل رديء من حيث المهارة التقنية، مع العلم أن هناك الكثير من الصور التي التقطها مصورون في الغرب لطائرة تمر فعلا من أمام القمر، وهذا الأمر ممكن من خلال دراسة حركة ومسار القمر واتخاذ الموقع المناسب في الوقت المناسب للخروج بصورة كهذه، ولكن التركيب والتلاعب الرقمي الذي حدث لدينا هو أقل ما يمكن وصفه بأنه تزوير معيب، سواء من خلال تقنية اللقطات المتعددة في الصورة الواحدة (الملتي أكسبوجر)، أو من خلال برامج الكمبيوتر، وهو ما صار ممكنا فعله بكل سهولة ويسر مع تقدم التقنيات في الكاميرا وبرامج التحرير في الكمبيوتر.
عود على موضوع «الكليشيه» في فن الفوتوغراف، تقول الفنان الفوتوغرافية الأمريكية كاثرين أوبي: «إن أكبر «كليشيه» في التصوير الفوتوغرافي، هي صور غروب الشمس وشروقها»، وعلى أهمية وصحة مثل هذه المقولة إلا أن الأمر لا يخلو من استثناءات من وجهة نظري، حين يتم تصوير هذه المشاهد «الكليشيه» بصورة مغايرة، أو من خلال أمكنة وزوايا جديدة، أو من خلال انتظار أن يكون في المشهد خصوصية، وهو أمر مرهون بالمثابرة عند المصور أو المصورة.
ثمة إشكالية يمارسها الكثير من المصورين والمصورات وهي عدم قبولهم بحقيقة أن هذه الموضوعات في التصوير الفوتوغرافي ليست من ميولهم الفنية، ولا تعتبر من مناطق القوة التي يمكن أن تجعلهم يبرزون ويقدمون أنفسهم من خلال صور تحمل بصمة خاصة بهم، إلا أنهم يصرون على تصوير بعض الموضوعات، التي كان يكفي أن يجربوها ليروا ما إذا كانوا سيقدمون فيها شيئا جديدا أم لا، ويواجهون أنفسهم بحقيقة ما ينتجون من صور نمطية، ويمضون بعدها لتجريب مواضيع أخرى.
لا أجد في نفسي استثناء من هذا الأمر، فخلال تجربتي الفوتوغرافية، لم أجدني قادرا على القيام بتصوير بعض المواضيع الفوتوغرافية التي تقع في إطار «الكليشيه»، ليس لأسباب تقنية أو معرفية، ولكن لأسباب ذهنية بالدرجة الأولى، أي الميول والرغبة، وكذلك لأسباب تتعلق بيقيني بأنني، وبعد أن خضتها مجربا لها، بأنني لن أقدم شيئا جديدا فيها، ومثالا على ذلك صور الطبيعة والزهور والطيور، حيث أن هذه المواضيع ليست هويتي الفوتوغرافية ولست أحمل الذهنية للقيام بهذا النوع من التصوير، وهو أمر ليس فيه عيب، على الرغم من معرفتي بالمتطلبات التقنية والمتطلبات المعرفية، ولكنني لا أحمل ذهنية جاهزة للتعامل مع هذه المواضيع.
الوضوح مع الذات عند المصورين والمصورات الجدد، والعثور على المواضيع التي تعكس هويتهم الفوتوغرافية تعكس حتى شخصياتهم وشخصياتهن، هي من أهم المهارات التي يجب أن يتقنوها. ليس كل مصور يمكنه تصوير كل المواضيع، وليس مطلوب منه ذلك، وليس ضروريا أن تكون لديه الميول أو الذهنية لفعل ذلك، كما يقول البعض، أو كما يقول البعض الآخر بأن مقدرة المصور أو المصورة على تصوير كل المواضيع، أو ما يسمونه بالمَحَاور، هي ركيزة وشرط أساسي لكي يعدوا أنفسهم مصورين، وهو ما يمكنني اعتباره أسوأ نصيحة ممكن أن يتلقاها المستجدون في عالم التصوير الفوتوغرافي، والتي تجعلهم يفقدون الثقة بموهبتهم حين يصرون على ذلك، ما يؤدي لاستنزاف طاقتهم، ويشتت مقدرتهم على التجريب في مواضيع أخرى، والعثور على بصمتهم الخاصة ومناطق قوتهم فوتوغرافيا.
وحين يتعلق الأمر بالتجريب الفوتوغرافي، فتجد بأنه بالإضافة لإشكالية «الكليشيه» التي تعاني منها الساحة الفوتوغرافية العربية، فهناك إشكالية عدم وجود ثقافة التجريب عند الكثير من المصورين والمصورات الجدد، وليس هناك مثابرة للاكتشاف والبحث، ولا الاشتباك فوتوغرافيا مع الواقع؛ كل ما فيه من مواضيع جديدة ومثيرة، ليعثروا على مُدْرَك مختلف (كونسيبت) يعكس صورتهم وهويتهم الفنية. عدد كبير من المصورين والمصورات، سواء الجدد منهم، والذين يمارسون هذا الفن لسنوات، وأنا هنا لا أتحدث عن التصوير الصحافي، وإنما أتحدث عن التصوير الفني والتصوير الحر، تجدهم وبسبب عدم التجريب والبحث، يقومون بإعادة إنتاج صـــــــور بعضهم بعضا، من حيث الشكل والزاوية والإضاءة والمحتوى والفكرة وفي أحيان كثيرة يعيدون إنتـــاج المشهد نفسه حين يرون أحدهم قد قام بتنفيذه بشكل ناجح، ولا يجدون في ذلك التكرار أي مشكلة، وتكون المحصلة صورا قد تكـــون جميلة وفنية، ولكنها تفتقد للدهشة وللدلالات البصرية الجديدة، سواء كانت دلالات جمالية محضة، أو دلالات تقنية للمفاهيم الفوتوغرافية.
تمكن بعض المصورين العرب من كسر نمطية الصورة، إما من خلال اختيار وقت جديد أو زاوية جديدة، أو حدث وعناصر جديدة في المشهد «الكليشيه»، الذي اعتاد عليه المتلقي بشكله المتشابه بين أغلبية المصورين، فخرجت صورهم تحمل دهشة تلغي صبغة التكرار عن المشهد، ولا يخلو الأمر من أن ثمة مصورين ومصورات سواء في الأردن أو في بلدان عربية أخرى، تلمح لديهم ذلك الشغف في اكتشاف هويتهم الفوتوغرافية من خلال التجريب، وتكاد تلمس مثابرتهم اليومية للتخلص من نمطية الأداء، الذي سيؤدي حتما لنمطية الصورة. يعملون على الخروج بصور لمواضيع وأفكار جديدة وغير مطروقة، سواء كصور منفردة أو صور لقصة فوتوغرافية، وهم بذلك يأسسون لأنفسهم قاعدة معرفية متينة يرتكزون عليها، ليقدموا فنا فوتوغرافيا متجددا وجديدا، بعيدا عن القوالب الجاهزة، والنمطية المملة، وأولئك سيكون لهم منجز فوتوغرافي مختلف وحقيقي، وسيتركون بصمتهم في هذا الفن الواسع.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى