«المرأة التي غادرت» للفلبيني لاف دياز: «الجريمة والعقاب» في نسخة سينمائية

سليم البيك
«المرأة التي غادرت» من الأفلام المليئة بالعناصر التي يمكن أن تنطلق منها مراجعات للحديث عنه، هنالك أولاً الجانب البصري فيه، وثانياً الجانب الحكائي، وثالثاً الجانب الخارجي، خارج إطار الصورة، وهذا الأخير يمكن البدء به، بالإشارة إلى أن الفيلم الفلبيني نال الجائزة الأولى في مهرجان فينيسيا الدولي في دورته الأخيرة، «الأسد الذهبي». وكذلك بالإشارة إلى غرابة في مخرجه، لاف دياز، لا في شكله، وإن كان شاباً بشعر رمادي طويل، بل في أكثر ما عُرف به في أفلامه المشاركة في مهرجانات، التي غالباً ما تنال استحسان النقاد وأحياناً جائزة ما، وهو طولها. فيلمه موضوع هذه الأسطر يمتد لأربع ساعات إلا ربع الساعة، فيلمه السابق «A Lullaby to the Sorrowful Mystery» يمتد لثماني ساعات، وقد شارك في مهرجان برلين العام الماضي ونال إحدى جوائزه، أي أنه أنجز فيلمين في عامين وبهذا الطول. نضيف إليهما آخر في 2014 امتد لخمس ساعات ونصف هو «From What Is Before» ونال الجائزة الأولى في مهرجان لوكارنو السينمائي، وغيرها من الأفلام المتميزة في جودتها، كما في طولها الزمني.
أما فيلمه الأخير «المرأة التي غادرت» المعروض في الصالات الفرنسية، الذي نال عن جدارة الأسد الذهبي في فينيسيا، فهو من الناحية البصرية علامة فارقة في التاريخ الحديث للسينما، لنقل منذ بدايات هذا القرن. صُوّر الفيلم بكاميرا ثابته، لم تتحرك طوال مدته، إلا مرة واحدة، ولدقيقة أو اثنتين كانتا الانعطافة في الحبكة، أو ذروتها، حيث بدأت تتكشّف مسائل وتنحل أخرى لينتهي الفيلم بعدها بساعة، تقريباً، متقدماً، كما في كل مراحله، ببطء في أحداثه. إنما لهذا البطء غاية بصرية، إذ كانت المشاهد الطويلة القابلة، جداً لدى غيره من المخرجين، إلى التحرير والاختصار إلى النصف، كانت صوراً فوتوغرافية ليست الغاية منها خدمة الحكاية وحسب، بل بالدرجة ذاتها تقديم متعة بصرية ثابتة للمُشاهد.
الكاميرا ثابتة، الإطار لا يتحرك، من اللقطة الأولى حتى الأخيرة في الفيلم، حضور كثيف «للضجة»، للأصوات الحيّة في الفيلم، غياب تام للموسيقى، باستثناء ذلك المشهد القصير الذي تتحرك فيه الكاميرا قبل أن نكتشف أنها موسيقى واقعية، من داخل الإطار وليس خارجه، أي أن لا موسيقى مُضافة في الفيلم. الإطار الثابت والتصوير الواقعي بصرياً كما هو سمعياً أعطى المُشاهد شعور المراقب الخارجي، كأننا أمام كاميرا منسيّة في مكانها، تصوّر دون قصد ما أمامها، لا تتحرك، يخرج الممثلون عن الإطار ويعودون وهي مكانها، نسمع الضجة والكلام من خارج الإطار، ونحن والكاميرا نراقب بعين موضوعية/خارجية. لا لقطات قريبة ولا بعيدة، كلّها متوسّطة كي تبقى ثابتة، لم نرَ الوجوه جيداً، إذ ينتهي الفيلم ونحن بالكاد التقطنا ملامح ممثليه الأساسيين.
هذا الثبات في الإطار أعطى الإيحاء، أكثر، بأننا أمام عمل فوتوغرافي بقدر ما هو سينمائي، الإطار الثابت والثبات داخله، فلقطات كثيرة لم يكن موضوعها يتحرّك، والحركة تكون غالباً لممثل أو اثنين ليسا بالضرورة في المنتصف، فما حولهما هو كذلك موضوع الصورة، وإضافة لكل ذلك فقد كانت الصورة مونوكروم، أبيض وأسود بحدة واضحة وتمايز بينهما، ما سمح للمخرج باللعب أكثر على فكرة الفوتوغراف، فالصور كانت في معظمها ليلاً، لأن أحداث الفيلم كانت ليلاً، في معظمها، ما سمح للمخرج باستخدام أوسع للإضاءة، أضواء السيارات وإنارات الشوارع والبيوت وغيرها، كلها لعبت دوراً جمالياً في إيصال الموضوع، وهو هنا الممثل، بشكل منقسم بين الضوء والعتمة، والحدة بين اللونين، الأبيض والأسود، جعلت من الحدود الفاصلة بينهما عنصراً أساسياً في إيصال الصورة التي أرادها المخرج، الصورة التي كأنّه أرادها لمعرض فنّي كذلك، لا لفيلم سينمائي وحسب.
أما سمعياً، فلم تغب الموسيقى فقط، بل إن الحوارات كانت مقلة جداً، ولم يكن للكثير منها غاية حكائية، تتقدم بها الحكاية، بل جمل وأحاديث متفرّقة ليست بالضرورة مترابطة، أحاديث يكفي أن ننزل إلى الشارع لنسمعها من المارّة. ما سمح للصورة، أكثر، بأن تؤدي دوراً في «قول» ما يحصل وفي تقدّم الحكاية من بدايتها إلى نهايتها. أي أن السيناريو شاركت فيه الصور كما الكلمات.
أما الحكاية، فهي لامرأة (تشارو سانتوس- كونسيو) تخرج من السجن بعدما قضت فيه ثلاثين عاماً، تخرج بعدما اعترفت صديقة لها قبل انتحارها بأنها من ارتكب جريمة القتل وأن صديقتها بريئة، تخرج الامرأة التي كانت في السجن تعلّم باقي السجينات وتحكي لهن قصصاً. تخرج لتجد أن زوجها قد مات منذ زمن، وابنتها غريبة عنها، وابنها تائه. تبيع أرضها وتسعى في رحلة انتقام ممن تسبب باعتقالها كل هذه السنين، وهو صديقها السابق الذي صار اليوم زعيماً لعصابة ويداوم على القدّاس في الكنيسة كل أحد. تتتبّعه وتشتري مسدساً بنيّة قتله. خلال كل هذا الوقت تتعرف إلى متسوّلة وإلى بائع حلوى وإلى متحول جنسياً، تحسن إلى كل منهم على حدة، تعطيهم نقوداً بسخاء، تعتني بالمتسولة وتحمّمها وتطعمها، تعطي البائع تكلفة علاج ابنه، تطبّب المتحول وتعتني به بعدما اعتُدي عليه. الامرأة طيبة بشكل لافت، وقد قال لها المتحوّل ذلك كملاحظة سلبية. الغاية من هذه التفاصيل هي إظهار مدى طيبة هذه الامرأة التي، في الوقت ذاته، تقتني مسدساً وتحاول الانتقام، في طرح حديثة لفكرة الجريمة والعقاب الكلاسيكية التي توسّع بها الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، إذ يتم طرح السؤال هنا، في الفيلم، ضمن بعده الأخلاقي المرتبط بطيبة الامرأة، وهو ما لا يوجد في الفيلم ما يسمح بالتشكيك به، وذلك في سياق ممتد على طول الفيلم وهو محاولتها الانتقام من رجل تسبب في حبسها لثلاثين عاماً، وهذا الرجل كذلك لا يظهر في الفيلم إلا كشرير وغد يستحق انتقام ضحيته منه. الفيلم غني بما يمكن الحديث به عنه، فهو، إضافة إلى كل ذلك، يصوّر المشاكل الاجتماعية في الفلبين، فالمجتمع الذي يصوره مليء بالسرقة والقتل والاغتصاب والاعتداء والخطف وهدم بيوت الفقراء والظلم بشتى أشكاله، وأحد المشاهد الأخيرة من الفيلم يشير إلى ذلك، في تقابل مع أحد المشاهد الأولى حيث تجلس الامرأة إلى مجموعة من السجينات تحكي لهن حكاية، لتجلس أخيراً مع مجموعة فقراء بعدما تم هدم بيوتهم لتحكي لهم الحكاية ذاتها، كأنّ العالم خارج السجن ليس أقل رحمة منه داخل السجن. أما كيف ينتهي كل ذلك فنتركه للفيلم ومشاهَدته.
(القدس العربي)