المصري أيمن السمري في معرضه «كُنا»… ذاكرة الريف التي تتلاشى

محمد عبد الرحيم
أصبح عالم الريف المصري اليوم وكأنه عالم بعيد، لم تعد العين ــ خاصة عند أبناء المدن ــ تلحظ وجود القرية المصرية، أو مشاهد ريفية قد تراها حتى في طريق السفر، اللهم إلا بعض المساحات الخضراء التي تظهر على استحياء ويندهش لها الكثيرون. كما أن الدراما الآن تخلت بدورها عن تجسيد حياة الفلاحين ومناخاتهم الاجتماعية والثقافية، رغم المغالطات الفادحة التي كانت تصور هذه الحياة وصراعاتها.
توارى المجتمع الزراعي وتناسى الجميع البيئة الأساسية للمصريين، وأصبحت مزحة كونه بلداً زراعياً تكاد تتفوق على كونه بلداً صناعياً، وهو الآن ما بين بين، يعيش على استهلاك الظواهر والمظاهر الفارغة، وقد اختفى يقينه في وجوده من الأساس. لذلك لم تعد غير الذاكرة ملاذاً ومأمنا، ومن خلالها يمكن تجسيد العديد من المشاهد البصرية التي تحفظ روح الريف وشخوصه وطقوسه، دون محاولة ادعاء أو تأسٍ، أو دعاية فارغة لمدّعي الفن، ومحاولاتهم التماس والتعبير عن عالم هم في الأصل لا يعرفونه ويأنفونه، وكأنه شكل من أشكال التخلف. في معرضه الذي أقيم مؤخراً في غاليري (ضي)، والمعنون بـ»كُنا» يحاول الفنان أيمن السمري استحضار مشاهد من الريف المصري، وأن يجعلها كحالة احتفائية وتناغم روحي للطبيعة، قبل أن يكون تناغما مكانيا للإنسان والكائنات التي تحيطه.
حياة الريف اليومية
الكثير من الفنانين يتناولون موضوع الحياة في الريف المصري، لتكون موضوعاً لأعمالهم الفنية، ومن الوهلة الأولى تستطيع أن تفرّق بين الفنان العالم بتفاصيل هذه الحياة، والآخر المدّعي الذي لم يرها إلا من خلال شاشة السينما أو التلفزيون، وهو بذلك ينقل تزييفه عن نسخة مزيفة في الأصل. اللقطات والمشاهد التي جسدها الفنان أيمن السمري توحي بأكثر من معايشة هذه الحياة، وهو كثيراً ما عبّر عنها خلال معارضه المختلفة، رغم تباين التقنيات التي جسد بها هذه اللقطات، ومحاولته الدائمة اكتشاف أو إضافة بعد جديد لتجسيد هذه الحياة، التي على سبيل المثال تمثل تواصلاً حضارياً كبيراً، يتخطى حتى الحضارة الفرعونية إلى نقوش ورموز بدائية، تحتفي بالإنسان وتجعله الوحيد مصدر التبجيل، فهو صانع الحضارة الأول. هذه النقوش والرموز، التي تصبح جزءاً لا ينفصل عن اللوحة، وليس فقط الاكتفاء بها كخلفية للحدث أو المشهد.
دائماً في حالة فعل
لا توجد لوحة شخوصها في حالة سكون، هنا تتواتر اللقطات ما بين الأعمال والطقوس وحتى لحظات الراحة. أفعال اعتيادية يعرفها ويقوم بها الجميع هناك، الزراعة، الحصاد، ساعة الطعام في الحقل، أوقات السمر، جلوس السيدات أمام الفرن، رحلة التسوق من سوق القرية الكبير. هناك دوماً حالة من الفعل، واللقطات في مجملها من الممكن أن توحي بتفاصيل يوم كامل في حياة قرية مصرية، تفاصيل مُكثفة ودالة على طبيعة هذه الحياة، وبالتالي مدى تأثيرها في روح وإيقاع شخوصها. ولمحاولة تأصيل هذه الوجود وجعله لا يتفتت أو يختل بمرور الزمن، تظهر حالة التناغم ما بين الإنسان والطبيعة من حيوانات وأشجار وثمار وما شابه، هناك حتى الإيحاء بحرارة الجو أو برودته، وصولاً إلى بعض من غبار يمكن أن يظل لحظات في المشهد، هنا المتلقي هو ما يستكمل الجو العام للوحة، بداية من وضعية أجساد الشخوص وطبيعة حركتها، وصولاً إلى العلاقات اللونية في كل لقطة أو لوحة.
ألوان الطبيعة
اعتمد السمري ألواناً أقرب إلى ألوان الطبيعة على تباينها، كأصفر المحاصيل الزراعية، على سبيل المثال، أو أن يصبح الجسد والخلفية في لون واحد أقرب إلى لون الطلاء البدائي للجدران، وكأن بصمات صانعها لم تزل.. تعاريج وخربشات، رموز قديمة يتعامل معها الفلاح كالإرث، رغم هجرانه هذه اللغة ومعانيها منذ زمن طويل. لوحة أخرى تتصدر الأبقار المشهد، بينما الرجال في الخلفية، هذا الزخم الذي يحتله جسد الحيوان بين رؤوس الرجال يشير إلى زحام السوق، وتصبح دلالة اللون الأحمر الذي يشد عين المتلقي هو المسيطر على اللوحة ــ الأبقار في لون أحمر قوي ــ هذا الدم الحار وهذه المخلوقات التي تمثل الحياة وقيمتها بالنسبة إلى الفلاح، فهي ثروته في الحياة والعمل، وجسدها الذي يتقدمه ويخفي جسده يُظهر مدى أهميتها له. وبجانب الأصفر والأحمر يأتي اللون المميز للريف/الأخضر، وأزرق النيل، تكوينات لونية ليست زاهية بالقدر الذي تمثله من قِدم واستقرار منذ زمن، هنا تتأكد حالة الذاكرة واستدعاء هذه المشاهد من خلالها، قديمة وبعيدة وحالة استماتة تريد القبض عليها وتجسيدها قبلما تفر وتخبو.
(القدس العربي)