النساء المسلمات داخل الحقل الأكاديمي الغربي: الورع والسلطة والذاكرة الشعبية

محمد تركي الربيعو

تعد الباحثة العربية/الأمريكية نابيا أبوت (1897-1981) من أولى الباحثات اللواتي انشغلن بكتابة تاريخ المرأة المسلمة في القرون الوسطى، داخل الجامعات الغربية. وأبوت مولودة في ماردين جنوب شرق تركيا، حيث كان والدها تاجراً عربياً مسيحياً، ثم سافر للتجارة مع عائلته إلى الموصل، وإلى بغداد وأخيراً إلى بومباي التي كانت واقعة آنذاك تحت الاحتلال البريطاني. وفي الهند تعلمت أبوت في عدة مدارس تدّرس فيها جميع المواد باللغة الإنكليزية، وتخرجت في عام 1919 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف من مدرسة إيزابيلا ثوربون للبنات في لكناو، وعادت بعد ذلك لفترة وجيزة إلى بلاد ما بين النهرين الخاضعة آنذاك لحماية عصبة الأمم، حيث أوكلت لها مهمة تطوير تعليم المرأة تحت رعاية غيرترود بل، في ما عرف حديثاً باسم مملكة العراق، ثم انتقلت مع عائلتها للولايات المتحدة، حيث حصلت على درجة الماجستير من جامعة بوسطن عام 1925، ثم تلقت الدعوة للانضمام إلى أعضاء هيئة التدريس في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو، وقد اهتمت في البداية بدراسة النقوش القديمة والمسكوكات الإسلامية، لكن مع منتصف الأربعينيات أظهرت اهتماماً كبيراً بتاريخ المرأة المسلمة. وقد تبدى هذا الاهتمام عندما نُشرت لها مقالتان بعنوان «ملكات العرب قبل الإسلام» و»النساء والدولة إبان ظهور الإسلام».
وفي العام التالي، أكملت ثلاثيتها عن النساء في بداية العصر الإسلامي، التي ضمت كلاً من مقال «النساء والدولة في صدر الإسلام» والسيرة الذاتية: «عائشة حبيبة محمد» وفي عام 1946 نشرت «ملكتان من بغداد: والدة هارون الرشيد وزوجته». في الوقت ذاته كان الباحث أغناتس غولدتسهير المتخصص في الدراسات الإسلامية يبحث في الدور الذي أدته المرأة في المحيط التقليدي للدين الإسلامي، واستهدف في دراساته تقاليد تقديس الأولياء ومزاراتهم وأضرحتهم. وفي مقال يحمل عنوان «تقديس الأولياء عند المسلمين»، طعن غولدتسهير في بعض المزاعم الاستشراقية التي كانت تنظر إلى المرأة في العالم الإسلامي بوصفها بقيت معزولة بوجه أساسي عن الحياة الروحانية للإسلام، من خلال دراسته للدور الجوهري الذي أدته المرأة في الحفاظ على المعتقدات التقليدية عند الأولياء، وتدفق الزيارات إلى تلك الأضرحة والمزارات، إلى أن حظيت بعض النساء بمنزلة الأولياء، وهو ما تبدى في أضرحة السيدة نفيسة والسيدة زينب في القاهرة.
ولم يقتصر دور غولدتسهير على دراسة المرأة المتصوفة، بل إنه حاول دراسة جانب لطالما أُغفل من قبل الباحثين في تاريخ المرأة، وهنا نعني الجانب المتعلق بدور المرأة كباحثة ومعلمة وناشرة للمعرفة. ويؤكد غولدتسهير في هذا الجانب على الدور الذي أدته المرأة في «الإسناد» كرواية ثقة في رواية الأحاديث، مثل نساء الكوفة اللاتي روين الحديث عن سلامة بنت الحر الفزارية من صحابيات الرسول، وكذلك كريمة بنت أحمد المروزية التي كانت تروي عن صحيح البخاري. ورغم أهمية الدراسات السابقة وغيرها من الدراسات التي صدرت خلال العقود القليلة الأخيرة، والتي قدمت مقاربات جديدة على مستوى فهم حياة المرأة داخل العالم الإسلامي، أو حتى على مستوى القطيعة مع الموروث الاستشراقي التقليدي، مع ذلك فإن إشكاليتها بقيت بالنسبة للقارئ العربي، في كون معظمها بقي باللغة الإنكليزية، ولذلك لم تتح له الفرصة للاطلاع عليها. وقد ساهمت بعض الجهود التي قدمت في العقود الأخيرة في سد بعض الفراغ في حقل دراسات تاريخ النساء داخل العالم العربي، ونذكر منها على سبيل المثال كتب الراحلة فاطمة المرنيسي، أو بعض الكتب الصادرة حديثاً مثل كتاب المؤرخة التونسية بثينة بن حسين حول «نساء الخليفة الأموي – قراءة جديدة»، أو حتى على مستوى بعض الجهود المؤسساتية، مثل الجهد الكبير الذي بذلته مؤسسة «المرأة والذاكرة» في مصر، التي أصدرت عدداً من الكتب الغنية على مستوى المنهجية والرؤية، ونذكر في هذا السياق كتاب «المرأة والجنون في مصر القرن التاسع عشر»، أو الكتاب الضخم «موسوعة النساء والثقافة الإسلامية/المجلد الأول» الذي ترجمته المؤسسة بالتعاون مع جوزيف سعاد أستاذة الأنثروبولوجيا والتاريخ في جامعة كاليفورنيا ديفيس، ودار بريل في مدينة ليدن في هولندا، وقد ضم المجلد الأول حوالي ست وسبعين دراسة تطرق من خلاله عدد من الباحثات المشاركات لما كتب من دراسات ومراجعات عن تاريخ المرأة المسلمة في الأكاديميات الغربية، خلال المئة سنة الأخيرة، إضافة إلى دراسة المنهجيات والمصادر الجديدة لدراسة النساء والثقافة الإسلامية.
مع ذلك، ورغم هذه الجهود المهمة فإن هناك فراغاً كبيراً ما زالت تعانيه دراسات تاريخ النساء المسلمات في حقل الدراسات العربية. ومن هنا يعد كتاب «المرأة في القرون الوسطى الإسلامية، تحرير غافن آر جي هامبلي أستاذ التاريخ في جامعة تكساس الصادرة ترجمته عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، من الكتب المهمة والغنية في هذا السياق، خاصة أنه يقدمه من خلال ثلاث وعشرين دراسة منشورة بداخله (التي أعدتها ثلة من أساتذة الدراسات الإسلامية في أهم الأقسام الإسلامية في الجامعات الغربية) على تغيير وجه الافتراض التقليدي القائل بانتفاء دور المرأة إلى حد ما في المجتمع الإسلامي التقليدي. ومن بين القضايا التي تطرق لها الكتاب، هناك عدد من الفصول التي تستهدف بالبحث الشؤون القضائية للمرأة آنذاك، ولعل من أهمها هي دراسة كارل ف. بيتري (جامعة نورث وسترن) التي سعى من خلالها إلى دراسة قضايا الطلاق في القرن الخامس عشر في مصر المملوكية، من خلال دراسة إحدى القضايا التي يأتي على ذكرها بشكل تفصيلي المؤرخ نور الدين علي بن داوود الجوهري في كتابه «نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان»، ويمكن أن نشير أيضاً إلى دراسة ليزلي بيرس (جامعة كورنيل) حول إجراءات الطلاق في محاكم عنتاب في القرن السادس عشر، ودراسة إيفون. ج. سنج (جامعة جورج تاون) التي تتصل حيثياتها ببعض سجلات المحاكم الشرعية التابعة للنساء في بلدية أسكدار في إسطنبول في القرن ذاته، إذ تحاول الباحثة من خلال دراستها لسجلات المحاكم الشرعية في تلك الفترة، والنزاعات التي جرى استدعاؤهن فيها، وسجلات الأملاك التي تركنها خلفهن، الوقوف على فعاليات النساء التي أغفلها الرحالة الأوروبيون.
ووفقاً للدراسة، على الرغم من أن النساء كن غالباً ما يشاركن في هذه الصفقات والتعاملات بفعالية. كما أن سجلات المحاكم تظهر أن النساء في تلك الفترة كن يظهرن في المحاكم بشخوصهن، بصرف النظر عن كون الأطراف الأخرى رجالاً أم نساء، مدعيات ومدعى عليهن على حد سواء.
في جانب آخر، يعرض الكتاب لنماذج نسائية فردية قبضت على مقاليد السلطة السياسية، ومن أهمها دراسة فرهارد دفتري للسيدة الحرة الحاكمة في اليمن، التي حكمت نيابة عن الخلفاء الأئمة الفاطميين في القاهرة في أواخر القرن الحادي عشر، وأوائل القرن الثاني عشر، وأيضاً نعثر على تحليل بيتر جاكسون لسيرة رضية بنت التتمش، ابن سلطان دلهي في القرن الثالث عشر التي حكمت السلطنة باسمها كحاكمة مستقلة، إلى أن أطاح بها الأمراء الناقمون عليها، إضافة إلى أخريات كان لهن نفوذهن من وراء ستار، إما بتقديم النصح والإرشاد، والتمسك بالقيم الدينية أو تقديم الدعم والرعاية للفنون.
ومن الدراسات الجديدة واللافتة على مستوى تاريخ المرأة في السودان نعثر على الدراسة التي كتبها كل من إدريس سالم الحسن (جامعة أديس ابابا) ونيل ماكهيو لسيرة «ست نصرة بنت عدلان: نبيلة سودانية في التاريخ والتراث» التي حكمت ولاية «سنار» السودانية في عام 1852. وكان مشايخ العرب كلهم وجميع السكان يولونها أسمى درجات التقدير والتبجيل، ويرجعون إليها في النوائب طلبا لمشورتها.
ووفقاً للدراسة، فإن الصورة الشعبية للست نصرة التي تكونت لها في ذاكرة المجتمع، تبدو صورة لشخصية بارزة تحكمية، لا تخضع لسلطة أي رجل. إنها تبدو – رغم النقص في تعليمها الرسمي– امرأة قادرة على إنشاء موطن جديد لها وهو «السوريبة» وإدارتها بنفسها. ولذلك فإن صورتها هذه أثارت اهتمام الناس وأسرت خيالهم. مع ذلك فإن ما يسجله معدو الدراسة هو أن هذه الشخصية، رغم المكانة التي حققتها على المستوى الاجتماعي والسياسي، لم تجذب اهتمام المؤرخين المعاصرين في السودان، بالإضافة لذلك فإن هناك سردية ذكورية جديدة بتنا نعثر عليها حيال هذه الشخصية، وهي سردية أخذت تخالف الرؤية الإيجابية الشعبية السابقة لصالح رؤية سلبية تنظر إليها بوصفها امرأة منحلة أخلاقياً ومثالاً للخزي والعار، فهي لا تخضع لسلطة أي رجل، ولا تعرف حدوداً لإشباع رغباتها الجسدية. كما أنه في هذه الصورة الذكورية الجديدة تبدو صورة نصرة امرأة جاهلة وغير لبقة في كلامها. وإلى جانب ذلك نجد أن منطقة «السوريبة» التي كانت تحت إدارتها – تظهر هنا بوصفها مكاناً يموج بالدعارة والملاذ بأنواعها للباحثين عن التمــــتع والتلذذ. وأن الست نصرة كانت وسط تلك الحياة الهمجية، تقيم بنفسها حفلات السكر والمجون، وبعبارة أخرى، فإن الست نصرة تظهر هنا على أنها مثال بالغ الوضوح لما يمكن أن يكون عليه السلوك الاجتماعي للمرأة إن لم تكن محكومة برجل.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى