الوثائقي اللبناني «إمبراطور النمسا»: لعنة الحديث عن الهوية الجنسية

محمد عبد الرحيم
رغم مظاهر الحداثة الهشة التي تضرب المجتمعات العربية، والتي في أغلبها مظاهر استهلاكية تعيد إنتاج حالة دائمة من الاغتراب ما بين الفرد وأفعاله، وبينما لم نزل نتحرّج عند الحديث عن علاقات الحب، وأن ننتظر رد فعل ما، سواء كان اجتماعيا أو سياسيا أو دينيا، يأتي الوثائقي اللبناني «إمبراطور النمسا»، وهنا يتخيّر سليم مراد في تجربته السينمائية الطويلة الأولى أن يكون الشكل الوثائقي هو الإطار الذي يحكي من خلاله حكايته، محاولاً تأصيل ما توصل إليه، والبحث عن سبب هذه السمة الحياتية التي يعيشها، عن طريق البحث عن عائلته وجذورها، وكما يقول والده «إنها اللعنة التي أصابت هذه العائلة». اللعنة المقصودة هنا هي الهوية الجنسية للابن/المخرج والمؤلف، التي تغاير المألوف، وتبعات ذلك على هذه الأسرة الصغيرة، التي تتوافق تماماً مع رغبات الابن، ولا تخرجه من رحمتها.
والفيلم، الذي اتخذ التوثيق كلحظة مواجهة دون افتراض، عمل روائي يحتمي بالخيال، يعد تجربة مباشرة وجديدة على السينما العربية، رغم المحاولات السينمائية الكثيرة التي لمحت إلى مثل هذه العلاقات أو الهويات المضطربة في نظر العالم العربي.
الفيلم أداء أنطوان مراد، سهام مراد، كارول عبود، إيلي مراد، جيسكا مالكون، ومنير عبد الله وسليم مراد. تصوير بشير حاج وجاد تانوس، مونتاج كارين دوميت، موسيقى داركو سباسوفسكي، سيناريو وإخراج سليم مراد. إنتاج 2016.
لستَ إمبراطور النمسا
الأب والأم وبينهما الابن، الذي يحكي الحكاية أو يفكر بالكاميرا أمام المُشاهد، الأم التي لا تتحدث إلا قليلاً، ودائماً تحمل ابتسامة مثقلة بالكثير من الهموم، وطواعية تنفذ رغبات ابنها في توجيهها وتصويرها كما يهوى، بأن تستسلم تماماً وتضع رأسها داخل غسالة الملابس، بينما الأب يبدو شديد الجدل ورغم قوة شخصيته البادية، وموافقته على خيارات ابنه الوحيد، إلا أنه يوافقه على الاشتراك بالتمثيل في الفيلم، يمثل ما يحياه بالفعل، ويعيد إنتاج مأزق أو اختبار تقبّله عن طيب خاطر، رغم الثورة الدائمة داخله، ومحاولاته كبح انفعالاته التي لا يفلح في مداراتها. والابن يسعى لمناقشة حياتهم في قسوة بدوره، فبينما يسأله بأنه لن ينجب أطفالاً، يرد الأب في ضيق وتحفز «أنت لست امبراطور النمسا حتى ينتظر الجميع نسلك كي يستلم العرش». ومن هذه العبارة الساخرة جاء اسم الفيلم.
الوحدة والهوية الجنسية
يعلم الابن جيداً أن شجرة العائلة ستنتهي به، ويستسلم الأب لخيارات الابن هذه تماماً، فهو لا يتفق والجنس الآخر، ولا يستطيع إقامة علاقة متبادلة مع امرأة، ولديه صديق هجره، ويحيا مأساة هذا الهجر. ليأتي صوت يردد أبناء داود النبي، حتى ينقطع الصوت فجأة، وكأن شجرة هذه العائلة من الأنبياء من الممكن أن تتوقف بدورها، مقارنة ساخرة لشجرة عائلة المخرج التي ستنتهي على يديه.
التراث ومشكلاته
ومن التراث الديني كما في سلسلة أبناء داود، يأتي التراث الاجتماعي والجمالي، ذلك عن طريق محاولة الأب في هدم المنزل القديم وبناء بناية جديدة، لكن العديد من الجهات الإدارية تقف للأسرة بالمرصاد، بحجة أن المنزل القديم يعد جزءاً من تراث المدينة، يضيق الأب بالروتين، ويأوي إلى منزل آخر، ضيق ولم يكن في رحابة المنزل القديم، لكنه مناسب للعائلة الصغيرة. هذه النغمة التراثية يلعب عليها المخرج ويتساءل دوماً عن فائدة مبانٍ/قيم متهالكة يضيق بها الجميع، ولم تعد صالحة إلا لإثارة الذكرى.
لعنة الذاكرة
اللعنة هي الكلمة التي يرددها الأب أكثر من مرّة داخل الفيلم، اللعنة التي يرى ابنه يحملها، بينما الابن يبحث مُنقباً في تاريخ عائلته عن سر هذه اللعنة، فهناك ابن تبناه الجد، وحرمه الجميع من ميراثه، فهو لقيط بالنسبة للجميع، وكان البيت القديم الذي آل إلى الأب وشقيقته لهذا اللقيط حق فيه، يتساءل الابن/المخرج ربما لو عاد للعم المنبوذ حقه، لأمكن التصرف في البيت. لكن الأب ينهره بشده ويُعنفه، خاصة وقد تواصل الابن مع أسرة العم صاحب الأولاد والبنات والأسرة الكبيرة، التي افتقدها الأب الذي يحيا الآن في منزل ضيق.
جرأة الرؤية
اللافت في فيلم «إمبراطور النمسا» ، أنه لا يقف متوتراً في المنطقة الوسط، ما بين التلميح والبوح بما اختار أن يعيشه، لكنه منذ البداية يعرض هذا الخيار صراحة، وما الأحداث إلا تبعات وتداعيات حياة هذا الشخص، في عالم لا يستطيع سوى مواجهته، والتعامل معه في صراحة شديدة وصرامة أشد. لم يُنشد مراد التسامح أو التواصل معه، بمعنى أنه لم يقف موقف المُخطئ الذي يريد العفو، أو الذي يحيا في مشكلة مزمنة، بل تجاوز ذلك تماماً، فالمشكلة الحياتية وهاجس أن عائلته ستنتهي عنده، وأنه ربما يعيد تكرار لعنة كانت، بأن يقوم بتبني أحد الأطفال في يوم ما، فهو مهجور الآن ولا يعرف ماذا يفعل!
التقنية السينمائية
نظراً لأن السرد الفيلمي يعبّر عن أفكار المخرج، وهو يريد ويؤكد أن يتشارك المُشاهد في رؤية هذه الأفكار وكيفية تجسيدها على الشاشة، يأتي الكثير من اللقطات في صورة الأبيض والأسود، كذلك العديد من اللقطات التعبيرية وصولاً إلى لقطات سريالية، خاصة المشهد الذي أصبح فيه البطل أشبه بجسد يطوف أقاربه حوله، يتمثلون العائلة بأكملها، يُباركون حياته/جثته وجسده المسجى الآن أمامهم. من ناحية أخرى يأتي شريط الصوت، الذي لا ينفصم عن حالة الدراما، كترديد أبيات شعرية، أو صوت البطل/الراوي وهو يتحدث عن أفكاره مع إحدى صديقاته، التي يبوح لها بأزمته بعدما هجره صديقه. هذا الصديق الذي تظهر أجزاء من جسده، وكأنه لوحة تشكيلية تعبّر عن هذه العلاقة.
هناك الكثير من العلاقات الدالة بين اللقطات، بداية من الأب الذي يعقد ربطة العنق جيداً حول رقبته، والابن الذي يدخل الكادر عارياً لالتقاط صورة تذكارية، فينهره الأب بشدة، كذلك صليب الكنيسة الملاصقة للبيت الموروث، صوت الأجراس وعظات الكاهن، والتقابل بينه وبين صوت الراوي، الصديقة التي يأتي صوتها دوماً كمحاور له، وفي النهاية نجدهما يجلسان في المقابر، العديد من الأجساد المسجاة بدورها، وإيقاع الموت الذي يحيط بكل شيء، ليردنا إلى مشهد جسد البطل وسط عائلته التي تطوف حوله، وقد أصبح الجميع أمواتا.
(القدس العربي)