«جسد وروح» للمجرية إلديكو أنييدي: أحلام الحب تتحقق أحيانا

نسرين علام : الانجذاب والخجل وعدم القدرة على الإفصاح عن مكنونات القلب، والحب وعدم القدرة على البوح، ومحاولات تخطي الحواجز النفسية التي تقف أمام الحب، هذا ما تطرحه المخرجة المجرية إلديكو أنييدي في فيلمها «جسد وروح»، المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين.
في «جسد وروح» تعود انييدي إلى الإخراج بعد توقف 18 عاما، وبعد رصيد أنجزت فيه خمسة أفلام، لعل من أشهرها فيلمها الأول «قرني العشرون» الذي حصلت عنه على جائزة «الكاميرا الذهب» في مهرجان كان 1989.
تعود أنييدي إلى الإخراج بهذا الفيلم المرهف الذي يلمس أوتار القلب، رغم المكان غير المتوقع على الإطلاق أن تدور فيه قصة حب. في جوهر الفيلم شخصان يتقاسمان حلما واحدا، والحلم هنا ليس مجازيا، بل هو حلم من تلك الأحلام التي يراها النائم حين يغفو.
هما في أرض الواقع وجلان للغاية، خاصة هي، يكادان يتحاشيان الحديث معا هربا من الخجل، فيكون الاتصال بينهما عبر حلم واحد ليلا يتشاركانه بكل تفاصيله، ويكملان أحداثه وتفاصيله في ليال تالية. هما، إن صح لنا التعبير، بينهما نوع من التخاطر والتواصل عبر الحلم، يطوعان دون وعي منهما أحلامهما لتجاوز ذلك الخجل الذي يعوق حديثهما.
الخجل بمفرده أمر يصعب تجاوزه للإفصاح عن الحب، فما بالنا إذا كانت قصة حبهما الوليدة تدور في مكان يبعد كل البعد عن الرومانسية، فالاثنان يعملان في مذبح ومسلخ للأبقار والماشية، حيث تعمل هي مراقبة للجودة ويعمل هو مسؤولا ماليا. خجل ووجل وعدم قدرة على التواصل ودم وأبقار تسلخ وتقطع، وسط كل هذه الظروف غير المواتية تنشأ قصة الحب.
في «جسد وروح» تلمس أنييدي برهافة بالغة تفاصيل النفس البشرية ونوازعها. نرى عبر فيلم أنييدي محاولة روحين للتواصل، رغم كل العوائق أمام ذلك. وهي في فيلمها تنأى بنفسها عن محاولات التفلسف أو التقعر. تقدم رؤية إنسانية رقيقة وثاقبة الفهم لروحين غريبتين عن عالمهما تحاولان اللوذ ببعضهما بعضا.
اسمه أندريه، وهو خمسيني مخضرم في العمل في المجزرة، لا يتحدث كثيرا ويحمل ألم إعاقة في الذراع. يحاول ألا يبدو متأثرا بإعاقته، ولكننا نشعر به ونتعاطف معه. أما هي، فاسمها ماريا، عينت حديثا لمراقبة مجريات العمل في المسلخ، وهي وظيفة تتواءم تماما مع طبيعتها، فهي دقيقة الملاحظة شديدة الخجل والانطوائية وغير قادرة على التواصل في آن. ماريا شابة وجميلة وذات وجه هادئ القسمات.
ويفسر الكثيرون صمتها ونأيها بنفسها عن الجميع بأنه غرور وتكبر. يشعر أندريه بانجذاب فوري لماريا وهي تبادله الإعجاب ذاته في وجل تام، وما كان أي منها ليفصح عن هذا الانجذاب لولا جريمة سرقة في المسلخ، يجري بعدها فحص نفسي دقيق للعاملين فيه ويتضح من الفحص النفسي أن أحلام أندريه وماريا أثناء النوم تكاد تكون متطابقة.
على النقيض التام من أجواء المسلخ، يأتينا مشهد الحلم المشترك لأندريه وماريا. هو حلم تستهل به أنييدي الفيلم: غزالان هما، وعل ذكر وغزالة أنثى في غابة بيضاء تكسوها الثلوج ويوجد فيها نبع ماء صغير. المشهد يكاد يكون ثابتا، ولكن ما يقوم به الغزالان يختلف في كل حلم، ما يشير إلى درجة متزايدة من التقارب. ذلك التقارب في الحلم يستتبعه تقارب حقيقي بين الاثنين في الواقع. هما اثنان بلغ بينهما التقارب والتناغم النفسي ذروته، وتتولد لدينا الرغبة في أن يؤدي التطابق النفسي إلى تقارب وثيق في الواقع.
تقدم أنييدي فيلما ثريا في تفاصيل المشاعر دقيقا كل الدقة في تفصيلها. هو فيلم يكشف لنا الصلة الوثيقة بين الروح والجسد. التقى أندريه وماريا روحيا وتطابقت أرواحهما وأكملتا بعضهما بعضا، فالتقى الجسدان. إنه فيلم فيه من الدفء والصدق والجمال الكثير.
نلمس في «جسد وروح»رهافة الروح حتى إن كان الجسد معطوبا. وسط وحشية العالم ووحشية العمل في المسلخ وقسوته يلوذ كل من أندريه وماريا ببعضهما بعضا ويتكاملان ويكملان بعضهما روحا وجسدا. تخلق أنييدي ذلك التضاد الشديد بين واقع العمل في المسلخ الذي تقاد فيه الأبقار للقتل وبين تلك الجنة التي يكسوها بياض الثلج في الحلم. معا، أندريه وماريا، يحيلان قسوة الواقع إلى حلم جميل.
«جسد وروح» فيلم فيه من الشاعرية الكثير عن شخصين نحبهما على غرابتهما وعدم قدرتهما على التعبير. هو فيلم يمس القلب ويؤثر فيه، ولعل أحد أسباب ذلك الأداء المتميز لبطليه غيزا مورتسناي وألكسندرا بوربيلي، اللذين يعبران عن رقة الفيلم ببساطة ودون تكلف. إنه فيلم نفذ ببراعة وتضافرت جميع العناصر من سيناريو وتصوير لإشعارنا بمدى صدقه وجماله.
(القدس العربي)