حصّة الضوء والتنوير… على هامش مذكرات سوزان طه حسين

عبد الباسط مرداس

« إنّنا نتّكئ على الذكريات» بهذه الجملة أجاب طه حسين زوجته سوزان، وهما يتجاذبان أطراف الحديث.
أثارت انتباهي هذه العبارة العميقة وأنا أتفحّص «معكَ»، مذكرات سوزان طه حسين، حفريات في الماضي وجمع لمخزون الذاكرة. في هذه المذكرات تحكي هذه السيدة الفرنسية علاقتها ومشوارها الطويل مع قاهر الظلام الأديب المصري طه حسين (1915-1973). وقعت عليها من باب الصدفة، صدفة من الصدف الجميلة التي تحدث لك وأنت تبحث على الإنترنت عن شيء ما فتعثر على شيء آخر. كنت ككلّ جيلي وسابقيه على دراية بكتابات عميد الأدب العربي. أعرفها وأتعرّف على نصوصه بسرعة، فأسلوبه الناصع الجميل كان دليلنا. فطه حسين أعطى للفكر عمره الطويل، وسجالاته الأدبية طالت معاركه السياسية وتناقلتها الألسن في المحافل، وسار ذكرها في الآفاق. كُتب الكثير عن طه حسين، الذي ترك عدداً من الأنصار وأثّر في أجيال كثيرة من الأدباء العرب، فكان في مساره هذا فعلاً استثناء فريداً، وما زال يفرض نفسه حتى اليوم. وتظهر لنا، في كلّ كتاب من كتبه المختلفة المشارب، وفي معاركه التربوية الكثيرة، مكانته وعمق الأفق الذي رسمه للأديب والمثقّف العربي.
لقاء طه حسين مع سوزان بريسو كان كذلك من قبيل الصدف الجميلة التي تعود إلى بدايات الحرب العالمية الأولى. فقد وقعت، هذه السيدة الفرنسية التي تولّت قراءة كتبه ومساعدته في الدروس، بقلبه وكلِف بها فؤاده واكتحلت بها عيناه، حيث أضحت بعد اللقاء الأول العين التي يبصر بها العالم، وحصّة ضوئه في العتمة والفكر. بها استنار لأفق كبير، وبعينيها جلى دُجى الظلمات. شاطرته الرخاء وعاشت معه في السراء والضراء. فكانت الزوجة التي يحتمي بها في وحدته والخليلة التي تضمّد جراحه الكثيرة.
أرادت سوزان طه حسين، التي فارقت الحياة في القاهرة سنة 1989 عن عمر يُناهز أربعة وتسعين سنة، أن تُنشر مذكراتها «معكَ» باللغة العربية أولاً، وهذا ما وقع بالفعل. فالكتاب، وإن كتب بالفرنسية سنوات قليلة بعد فراق الأديب المصري، بقي سجين مكتبة معهد الدومينيكان للدراسات الشرقية في القاهرة وفي متناول بعض القراء، لكن ترجمة الكتاب إلى العربية ونشره كانت سابقة لصدور النسخة الفرنسية. وهذا وحده من المفارقات العجيبة، أن يُؤلّف كاتب كتاباً بلغة ويطلب من آخر أن يترجمه وينشره بلغة أخرى. فإلى حدود سنة 2011، سنوات بعد وفاة سوزان، تنشر دار النشر الفرنسية «لُوسوي» النسخة الفرنسية، هي التي كانت تجهل اللغة العربية أصرّت أن يكون القارئ العربي أولى بهذه القراءة. وترجم الكتاب المترجم السوري بدر الدين عرودكي باقتراح من المستعرب جاك بيرك الذي كان ما فتئ يحثّ سوزان على كتابة هذه المذكرات، وحمل الكتاب عنوان «معك»، وتولّت دار المعارف المصرية نشره سنة 1977، وتوالت الطبعات بعد ذلك.
«معك» سيرة تتّكئ على الذكريات وتسردها. شهادة مثيرة عن الحياة الفكرية لمصر لفترة تمتد من الحرب العالمية الأولى إلى بدايات السبعينيات، حيث أصبحت دار طه حسين في القاهرة قبلة لرجالات الفكر والثقافة من العالم العربي وخارجه. فطه حسين شغل مصر والعالم العربي طيلة القرن الماضي. وما تُفصح عنه المذكرات هو أسفار طه حين الكثيرة وشغفه بالموسيقى الكلاسيكية والفنّ الأوروبي ولقاءاته العديدة مع كبار عصره من أدباء وملوك وسياسيين، في فترة كانت القاهرة القلب النابض للأدب والفكر والثقافة. فقد كان رغم كثرة كُتّاب جيله، استثناء للمثقّف العربي الذي استطاع اختراق الحدود والإعاقة والمسافات.
جالساً على كرسيه بالقرب من المدفأة، متنبّهاً واثقاً من نفسه يحضّر لمعركة من معاركه السياسية أو الأدبية، هكذا يطالعنا طه حسين في بعض الصور. أحياناً مشرق الجبين وقد لاحت عليه أريحية السرور، وأحياناً مسترخياً على أريكة في جولة في إحدى القرى الفرنسية يحوم حوله طائر الفكر، وأخرى في شجن عميق تحوم حوله الخواطر.
«معكَ» شهادة من أقرب الناس إلى الأديب المصري، عِشرة عمر تفوق نصف قرن، يلامس فيها القارئ هموم الكاتب وهواجسه.
فالمذكرات، ومنذ العبارات الأولى، صورة لعشق مستحيل بين أعمى مسلم وفرنسية كاثوليكية من عائلة محافظة في سياق صعب، سنة واحدة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وفي بلد غريب (فرنسا). كلّ شيء كان مستحيلاً بينهما. «دونكِ أشعر أنّي أعمى حقّاً، أما وأنا معك فإنّي أتوصّل إلى الشعور بكلّ شيء، وإنّي أمتزج بكلّ الأشياء التي تُحيط بي». هكذا نضح عشق من صوت، صوت سوزان وأذن طه. ويمكننا أن نتعرّف من جديد على صوت هذا الأخير. ففي الأشهر الأخيرة يمكننا الاستماع لصوته ومتابعته في بعض الجلسات الأدبية المنشورة على الشبكات العنكبوتية. وما يسترعي الانتباه في هذه الجلسات هو لائحة المثقّفين المصريين المحيطين به، ومدى احترامهم له لكيلا نقول تهيّبهم منه. ويمكن أن نستمع إليه كذلك في بعض خطبه بفرنسية ناصعة وجميلة.
ونتابع الظلال المتّكئة على الذكريات مستمتعين بقراءة «معكَ»، ونصادف في ثنايا المذكرات وصفاً في غاية البساطة والتأثير لطه حسين وهو في حضرة الفراق في ليلة أخيرة من ليالي القاهرة:
«ثم جاءت اللّيلة الأخيرة. ناداني عدّة مرّات، لكنّه كان يناديني على هذا النحو عدّة مرّات بلا مبرّر منذ زمن طويل (…)، نحو الساعة السادسة جعلته يشرب قليلاً من الحليب، وتمتم «بسْ…» ونزلت أعدّ قهوتنا، ثم صعدت ثانية مع صينيّتي ودنوت من سريره وناولته ملعقة من العسل بلعها… وبدا لي بالغ الشحوب عندما استدرت إليه بعد أن وضعت الملعقة على الطاولة وهيّأت البسكويت، لا تنفّس ولا نبض (…) وجلست قربه مرهقة مُتبلدة الذهن وإن كنت هادئة هدوءاً غريباً».
أربعة وأربعون سنة مرّت على فراق طه حسين لدنيانا، دخلت مصر بكُتّابها وأفلامها وأماكنها وأحداثها قلوبنا وبيوتنا ومتخيّلنا العميق، حصّلت مصر على جائزة نوبل بفضل كاتب كبير آخر (نجيب محفوظ)، وعرفت في عهد طه حسين وبعده أحداثاً جساماً وثورات، وتغيّرت ملامح المكان، ومرّت هذه السنوات الجميلة المليئة بالغليان السياسي والفكري والثقافي كلمح البصر. وتدخل مصر ويدخل معها العالم العربي في نفق كبير تقلّصت فيه حصّة الضوء والتنور. وما زال في الأفق رجْع صوت طه حسين الرهيب كالطائر الليلي يُرنّق فوق رؤوسنا: «سأترك لكم كثيراً من الألم وقليلاً من الأمل»؟

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى