شعراء يوظفون التصوف وهم أقل الناس فَهْما له: محمد السرغيني: يجب أن نتحدث عن الشعر باعتباره فنًّا كونيًّا!

عبد اللطيف الوراري

قبل نحو سبعة عقود، كتب محمد السرغيني الشِّعر. وعلى غرار أبناء جيله بدأ رومانسيًّا كما تفصح عن ذلك ما سماه «ما قبل الأشعار الأولى». وفي «الأشعار الأولى» نعثر على بدايات تشكُّل الأسلوب الشعري عنده، وهو يمتدُّ – زمنيًّا- ما بين 54 و67 من القرن العشرين. وفي هذه الحقبة الخصيبة من عمره، وكان بعضه يتشكل في بغداد، بوصفها قطب رحى التحديث الشعري والفني، يقف محمد السرغيني في طليعة الشعراء المجدّدين الذين فتحوا تجاربهم لسنوات طوال على رياح الحداثة التي كانت تهبُّ على وتائر من المشرق والشمال على حدّ سواء، وأفادوا بها نسغ القصيدة المغربية أيَّما إفادة.
ومن الدالّ أن محمد السرغيني لم تظهر مجموعته (باكورته) الشعرية الأولى: «ويكون إحراق أسماءه الآتية» إلا في عام 1987، أي بعد أربعين عامًا من الحضور في الشعر وعبره، لتتوالى مجاميعه – كشوفاته الشعرية ابتداءً من عناوينها الفريدة: «بحار جبل قاف» 1991، «الكائن السبأي» و»وجدتك في هذا الأرخبيل» 1992،» من فعل هذا بجماجمكم» 1994، «احتياطي العاج ومن أعلى قمم الاحتيال» 2000، وليس آخرها «تحت الأنقاض فوق الأنقاض» 2012. ومع خصوبة منجزه الشعري وفرادته، يظلّ محمد السرغيني شاعرًا يهابه النقاد ويتهيّبون الدخول إلى شعره مثل محمد السرغيني، وهم يعلنون عن ذلك صراحةً، مثلما أن الشاعر نفسه يشعر بذلك، ولا يتورع عن نقده. نكتشف عند الشاعر آثار شعرٍ مُفارِق؛ فقد انحازَ مُبكّراً، بتأثير من خلفيّته الفلسفية والصوفية، إلى الاشتغال على اللغة، لغة الرؤيا بما هي فيض وحدوسات وتأتِّيات مباغتة، خارقاً نسقها الدلالي المعتاد عبر آليّات التوليد والانزياج والتجريد المشعرن. مثل هذه اللغة التي خبرها ولم يأْلُ جهداً في المعاناة معها/ معاناتها، لم يعد يهمُّه فيها الإفهام، ولا تطويع صيغ الشكل المطروقة لأجل التعبير، ولا أن يتصوُّرها كركام من الإسقاطات والتكرار كما حصل، إلى حدّ أن تصير إلى التشعب والوعورة في النص وعبره. إنّنا بصدد تجربة وجودية بالمعنى الأنطولوجي للكلمة، وفيها يتحوّل العمل الشعري لديه إلى مزيج مدهش من المعارف، أو من «الصنائع» بتعبيره. في هذا الحوار الذي أجريناه مع الشاعر الذي ما زال ذهنه متوقّدًا، وإن كان يتحدث بمشقّة لكبر سنّه، تستضيء عتمة مستحكمة بينه وبين دائرة تلقّيه.
■ في هذا العمر، كيف تنظر إلى تجربتك الشعرية؟
□ في اللحظة الراهنة، لا يزال الإنسان بإمكانه أن يرى ذلك، فالتجربة لم تكتمل بعد، وهي تزداد اتّساعاً وغوراً، كُلّما ازداد اتصالا بالحياة وبالآخر. لذلك يمكنك أن تحكم على نضج فلان بالنظر إلى حقيقة واقعية، فأنت بسؤالك عنه كأنّك تقطع الصلة بينه وبين تجربته. نحن نعيش مع التطور، ولهذا من الصعب أن يصل الإنسان إلى فكرة نهائية؛ فالأشياء التي يروّجها النقد الشعري المعاصر عن جيل في طور النمو غير سليمة. أنا أجعل ذلك دلالةً على أنّ النقاد من هذا النوع إما أنهم لا يقرؤون تجربة الإنسان من بدايتها إلى لحظتها الراهنة، وإما يقرؤونها بنظرة ماضوية. وفي كلتا الحالتين، لا يستطيعون أن يقولوا شيئاً.
■ لماذا تأخرت عن النشر إلى عام 1987 بصدور ديوانك: «ويكون إحراق أسمائه الآتية»؟
□ قضية النشر لا تستفزّني أنا شخصيّاً، نشرتُ أم لم أنشر. معنى النشر أنّك تبحث لنفسك كيف تصبح نجماً، وهو ما لا أعيره اهتمامي، بل إنّه من الأشياء التي تعلّمتها من التصوف، ومن ابن عربي على وجه الخصوص. ابن عربي من كبار القوم ما كانت له زاوية، وما كان يزعم أنّه مرشد وله مريدون. ما كان يملكه هو الأفكار التي كان يكتبها ويقولها، وقد توصّل في وقت باكر إلى وحدة الإنسان:
أدينُ بدين الحُبِّ أنَّى توجّهت
ركائبه، فالحبُّ ديني وإيماني
وإذن، فالنشر هو نوعٌ من التسويق لا أبالي به على الإطلاق، ولذلك، فالكتب التي نشرتها إمّا أُوزّعها أو أودعها في المنزل. قد يضحك الناس إذا سمعوا بمثل هذا الكلام، لأننا نعيش عصر الماديات.
■ ما رأيك في من يتّهمون شعرك بالغموض، ويتهيبون خوضه لوعورة مسالكه؟
□ هذه القضية تتعلق بالتجربة الشعرية، وهي تتطور مع الإنسان منذ أن بدأ يكتب الشعر. كيف تتطور؟ تطوُّرها يقع مع توالي الأيام، ويقع بالقراءة المتأنية لشعر الغير؛ وأعني بالغير هنا أنّي لا أميز بين قراءة شاعر عربي وفرنسي وإسباني وغيره. هذه القراءة من شأنها أن تساعد على تمثُّل ما حوله من أنواع الكتابات. لا يمكن أن يقول الإنسان بأنه حرُّ مَلَكتهِ، وهو يختار نوعاً من الكتابة، بل هو مجبرٌ عليها، والذي يجبره على ذلك كثرة اطلاعه وكثرة قراءاته وكثرة اتصاله بالحياة.
وهكذا، فالذين يضعون مثل هذه الأسئلة يعتبرون أن الشعر شبيه بحلوى نأكلها ونحسّ إحساساً مادّياً بحلاوتها، وبعد مُضيّ وقت زهيد تنتهي هذه الأشياء. ولكن الشعر يجب ألا ينتهي نهائيّاً، فهو كائن متطور. وإذن، فالتطور الشعري يأتي من النواحي الآتية:
أولّاً؛ من الإلمام بتاريخانية الشعر، فأنت حين تعجبك قصيدة من العصر الجاهلي يجب أن تكون على القدرة نفسها من القراءة التي تنتمي إلى القرن السابع؛ أي أن يكون فهمك كونيّاً. وإذا كان الأمر كذلك، فالتطور يحصل تلقائيّاً وبصورة سريعة جدّاً، إلى حد أن قصيدة اليوم تتجاوز قصيدة الأمس. فهذه الأشياء إذن، يجب أخذها بعين الاعتبار.
ثانياً؛ المقاييس لمعرفة الأشياء لا تسبق الأشياء نفسها. إنّ عكوفك على كتابة الشعر هو الذي يجبرك إجباراً على اختيار المقاييس التي تكتب تبعًا لها. لكي يحصل الإنسان على هذا النوع من الفوائد، يجب أن يكون موسوعيّ الثقافة، ولا عذر لأحدٍ في اللحظة الراهنة أن يشكو من ذلك في واقع يشهد ثورة المعلومات والإنترنت. إذا كنت تنتمي إلى حضارة من هذا النوع، فكيف تشكو من المعرفة. والناس الذين يشكون من الغموض، فأوّل ما يلاحظ عليهم أنهم يأخذون الشعر مأخذاً على أنّه حقيقة يمكن أن تكون ثابتة لها مبدأ ولها معانٍ. لكن هذا الشيء غير واقع. لماذا؟ لأنّي من جملة الذين يعتقدون أن الشعر بلغ من الاتساع قدراً لا يمكن أن يدّعي إنسانٌ بأنه يحيط به. أنا شخصيّاً، أتصرّف بما أعلم به، وإذا تصرّفتُ بما لا أعلمه فلستُ مسؤولاً على فلان لما يفهمه. أسأل هذا الشخص: لماذا لا تفهم؟ فـ»المعاني مطروحة في الطريق يعرفها الجميع» على حد تعبير الجاحظ.
فهؤلاء يأخذون الشعر على أنّه تزجية للوقت، ولكنه في اللحظة الراهنة – حسبما نقرؤه لشعراء غربيين- عالم قائم الذات له اتصال بما قبله عن طريق نقده وتوضيح غوامضه، وله إجراء بالحاضر عن طريق مَوْضعته في هذا النص، وله إجراء ثالث عن طريق ما يمكن أن يتمخّض عنه في المستقبل. بهذا المعنى، أنا أكتب الشعر. أما الذين يتهمونه بالغموض أطلب منهم، بكامل اللياقة، أن يوسعوا مداركهم. إن النقد في معناه الأصل هو الضغط على النحاس والحديد من أجل صنع قطعة نقدية، وليس له علاقة بـ: أنقذ يُنْقذ، أي نجّاه من الموت. أسائلهم من أيّ نوع هم؟ مهما يكن من أمر، فالنوعان معاً لا ينطبقان على ما يكتبه الناس جميعاً في اللحظة الراهنة من شعر. كلّ ما يمكن أن يقال إن حاستك المتّقدة التي تدفعك إلى كتابة الشعر تجعلك تكتبه هكذا. إذا كان هذا الشخص غير قادر على تبيُّن هذه الأشياء، فالقضية ليست لها علاقة بالشاعر، وإنما هي في مكان آخر من مقاربته. إن الشعر عبر الموروث العربي كان، بصفة مجملة، يوضح جوّاً خاصّاً لعلاقة الحاضر بالماضي، والآن أصبح جوّاً خاصّاً يُقاس بعلاقة الحاضر بالمستقبل. لا يمكن أن تتحقق هذه الأشياء بالنسبة إلى الشاعر، إلا إذا كان ذا ثقافة موسوعية. أما الذين يقولون مثل هذا الكلام عن غموض الشعر، كان من اللازم أن يُرمّموا بناءهم المتصدع.
■ بعد المرجعين الرومانسي والواقعي، إلى أي حد أفادك شعرك من المرجع الصوفي؟ ثُمّ كيف تفهم الصوفية في الشعر؟
□ في البداية، أنا كنتُ معجباً بشعراء المهجر طيلة عشر سنوات، ولم يكن إعجاباً عن نزوة، بل ناتجاً عن تدقيق؛ لأنه بهؤلاء الشعراء، ولاسيما إيليا أبو ماضي، اكتشفتُ أنّني إنسان. ولأنني إنسان وجب عليّ أن أملأ قدر ذاتيّتي من الفراغ للعيش. وقد بقي هذا السؤال عالقًا عندي، حتى اكتشفتُ أن هذه الإنسية التي دعا إليها شعراء المهجر هي إنسيّةٌ مسيحيّةٌ. ومع ذلك، فقد كانت موجهة إلى الإنسان بما تنطوي عليه جوانب رائعة من الممكن أن تُضمّ إلى الإنسية الإسلامية، التي يجب عدم نسيانها وتتجلى في تعلُّق الدين الإسلامي بالعقل وأشكاله. كما أن هذه الإنسية ليست في منأى عن الديانة اليهودية. ومن ثمة، فإن على الإنسان أن يوسّع مساحة فهمه للأشياء.
وبعد أن أنهيْتُ علاقتي مع شعراء المهجر، بدأت أرى أنّه من الواجب توسيع المعرفة لفهم الوقائع التي حولي. وأخذ يستأثر باهتمامي أن الإنسان خُلِق ليفهم الكون، وإذا تحقّق له فهم الكون بكلّ ما فيه، فإنّ أمامه مسعى آخر هو محاولة وضع أورغانون لدفع هذا العالم إلى التطوُّر اللانهائي. وقد فتحتْ إقامتي في باريس عينيَّ على كثيرٍ من الحقائق التي يجب أن أهتمّ بها، إذا أردت أن أكون إنساناً؛ ومن جملتها أن أعمل ما في مستطاعي على التقرب من الآخر، لأن المشكلة كلها بدت لي من أن هذا العنف الكبير الذي نعيشه ناتجٌ عن انقطاع الصلة بيني وبين الآخر الذي أشترك معه في أمور كثيرة. وفي هذه الحالة، بدأت أقول إنّ جنة الإنسان في الدنيا، ومن واجب الشاعر أن يجعل هذه الجنة للآخرين موئلاً يؤولونه إليه، إذا حدث لهم ما يستوجب الضرر، وأن يتسع فهمه للعالم بشكل يسهل عليه الاندماج النهائي فيه. وقد قادني كلّ ذلك إلى التصوف، الذي أفاد الشعر إفادةً كبرى، ولاسيما إدخال العالم اللامرئي إلى حيّز المرئي. لقد وجد الشعر في الصوفية مرتعاً خصباً لا أول له ولا آخر: المجازات بكثرة وذات البعد البعيد، ثم القدرة على تصوير ما هو حاضر بما يمكن أن يحضر في ما بعد، أي ما يمكن أن نسميه بـ(الاستشفاف). الصوفية في ما مضى أعطت الشاعر الرقّة فوق المادية، وجعلته يكتشف كثيراً من المُعمّيات القديمة التي سقط فيها الذين يبحثون في الأديان ولم يستطيعوا أن يصلوا فيها إلى حدّ أو إلى نتيجة. فهذه مزيّةٌ عظمى أفادها الشعر من التصوف القديم والحديث، من خلال اعتبار الإنسان أسمى مادّة تعيش في الكون ويعيش الكون بها.
كيف ذلك؟
أوّلاً؛ أعطى للمتديّنين فرصة رائعة لتفسير كثير من المشاكل المتعلقة بفهم الدين وعلاقته بالماضي والحاضر والمستقبل.
ثانياً؛ أعطى نوعاً من القدرة الكبيرة لإثبات فكرة كونيّة الإنسان في الزمان، أي يكون في فترة معينة من الزمن كائناً جسداً وروحاً، وفي فترة بعدها روحاً فقط، وفي المرحلة الثالثة روحاً تدرك سرّ الكون من ألفه إلى يائه.
لما تأتي إلى هذه النتائج وتريد قراءتها قراءة فلسفية معاصرة، وبالأخص في الفلسفة المادية، تجد مصداقية ذلك في أنّ الماضي حين يُسْدل الستار عليه تبقى آثاره المادية وغير المادية. وفي اللحظة الراهنة، تطور الأجيال المتلاحقة هذه الآثار المادية وتلقي عليها الكثير من الضوء بشكل يعطيها «هيولى» مستمرة، وهذا هو شغل الشاعر.
■ أفهم أن الصوفية التي تعنيها تتجاوز معناها الديني؟
□ الصوفية أنواعٌ. وإذا أردت أن تنظر إليها، فيجب ألا تنظر إليها على كونها أساساً من أسس التاريخ الفكري عند العرب، فالشعوب البدائية الأولى مارست نوعاً من التصوُّف لا حدود لجماليّاته. الآن، نستطيع أن نتبين ذلك. فالهنود القدامى لهم إحساس رائع جدّاً، ناتج عن اعتناقهم للتصوف، بخلود الإنسان؛ ليس لأنه ميت، بل خلود الإنسان هو استمرار النتائج التي توصل إليها وانتقالها إلى آخرين لتطويرها (التناسخ). من سوء الحظ أنّ الذين يكتبون عن تاريخ التصوف الإسلامي خاصة، ولا حتى التصوف اليهودي أو المسيحي، يربطونه ربطاً أساسيّاً بالفلسفة اليونانية، وهذه الفلسفة مادّية في منطقها.
■ إذا كان الأمر كذلك، وهو ما تنتج عنه رؤية غير تامة، فهل نستطيع أن نرى نتائج التصوف فيك وفيّ أنا، وفي سلوكنا؟
□ أحياناً، نرى بعضها، وقد لا نراها في أحيان كثيرة. إن الشاعر مؤهّلٌ لتوضيح الأسس التي تقوم عليها هذه الأشياء، إذا استطاع أن يتوغل في عمق الإنسان المعاصر. وهو عمق من الصعب النفاذ إليه، لأن الحضارة المعاصرة سريعة التطور لا يستطيع الإنسان أن يلاحقه ولو باستعمال الأدوات الممكنة التي هي بين يديه. أعتقد أن الشاعر يستطيع هذا العمل بسبب رهافة دواخله، وبسببٍ من فهم المهمّة التي من أجلها يوجد؛ وهي أن يجعل مفهوم الإنسان واضحاً أمام الجميع، ليس بمعنى أن يأكل ويشرب ويتزوج وما إلى ذلك، بل بوصفه كأداة رائعة لتطوير الكون ونقله في مدة وجيزة من الزمن: من/ إلى.
■ يسوقنا هذا الكلام إلى ما تسميه بـ»عقلنة الشِّعر»، في أي سياق تحديداً يرد عندك هذا النوع من الفهم؟ وكيف تستثمره كتابيّاً؟
□ عقلنة الشعر من طريقتين: عقلانية الممارسة تطلب لغة متسعة، ولغة شعرية رائعة، كما تطلب القدرة على التصرّف فيها، فيما هي تتجاوز القوانين وضعها التي أصحاب البلاغة الأقدمون بقدر ما تخلق قوانينها بنفسها. ببساطة، فإن عقلانية الشعر هو أن تجعله طريقتك الخاصة لفهم العالم. ولكي تفهم العالم يجب أن تمنح فيه ما يستحقّ المنح، وأن تُثْني عليه بصوتك وكلامك كلّه، وأن تعمل كل ما في وسعك على إضاءة ما تشعر بجماليّته. وفي هذا المجال، لا يبقى الشعر لغةً فقط، يبقى تشكيلاً وتصرُّفاً فاعلاً ودقيقاً في اللغة التي تكتب بها. إذا قال الأقدمون كذا وذكروا كذا، قُلْ أنت: تنبّأ وأوحى أو أي شيء من هذا القبيل. فهذه أشياء لا يستطيع الإنسان أن يدركها إلا بالممارسة المستمرة، وإلا بالحب الرائع لكتابة الشعر. قضية الاستثمار تحيل على فكرة اقتصادية لا أحبُّها. الاقتصاد مهما حاول المتكلمون فيه أن يطبلوا ويزمروا، فإن فيه جوانب رديئة على شاكلة اقتصاد الريع وما فيه من سرقة ونهب. بهذا المعنى، لا أحبّ من الشعر أن يكون مقتصداً، بل أن يكون كثير الإلحاح على فضح هذا الاقتصاد، وإن كان الاقتصاد – كما ذكر ماركس- له أنواع رائعة تسعى إلى تقدم الإنسان وزيادة فهمه للحياة، وفي الوقت نفسه فقد أدان الاقتصاد الذي هو سرقة خالصة. في هذا الباب، يجب أن تتمّ الموازنة. لا أستثمر، لأن الاستثمار يفرض نوعاً من التكلف، بل أترك للطبيعة أن تقول ما تريد. هذا ولا أزعم أنني وصلتُ في هذا الباب إلى نسبة مئوية كبيرة أرتضيها. كلُّ ما هنالك هو أني أفعل ما أريد. هناك بعض الناس يستغلّون التصوف مادّياً، أي أنهم يدمجون مصطلحات التصوف إدماجاً في سيرهم، كما في حيوات المتصوفة: ما الذي يمنعك من أن تنام الليل كله، علماً بأن نموّك الحقيقي مقتصر على أن تنام الليل هنيئاً وتستيقظ فرحاً؟ ما الذي يمنع من أنك تقضي عمرك في بئر، وتترك الوسيلة الأولى وهي قوّتك وعقلك في استخدامها من أجل تنمية الآخر؟ لا يكون التصوُّف مفيداً إلا حيث تكون كتابته الأولى أساسها إدماج نفسك في الغير وإدماج الغير فيك. لا يمكن أن يكون هذا الإدماج حقيقيّاً إلا حيث تكون مزوّداً بنوع من الحماسة الكبيرة جدّاً، وقول ما تريد قوله أحبَّ من أحب وكَرِهَ من كره.
■ هل تتفق معي أن التصوُّف صار موضة في الشعر عندنا؟
□ أنا متّفقٌ معك كل الاتفاق، ولكن يؤسفني أن أقول إن هؤلاء الذين يوظفون التصوف أبعد الناس فهماً عن التصوف. ليس التصوف أن نقرأ شخصاً معيناً، وربّما نقرأ أكثر كتبه، وتجذبك إليه بعض الأفكار التي يقولها، لكن هذه الأفكار التي اجتذبتك إليه، هل تستطيع أن تخرجها من عالمه الضبابي إلى عالم الوضوح، أي أن تترجمها إلى عمل يسهل تطبيقه في الحياة المعاصرة. شيءٌ من هذا لم يحدث، كلُّ ما هنالك: الصوفي والمريد، قال ويقول، وليس غير هذا الذي تجده. موضة لا تهمُّ كثيراً من الناس، بل تخصُّ أولئك الذين يبحثون لهم عن طريقة تسويقية لكتابة شعر. الطريقة الصحيحة لكي تكتب شعراً أن يتوغل فيك حبُّ الشعر، وتوغُّل الشعر فيك لا يكون أساسه ذِكْرُك بين الناس، ولكن أساسه حبُّك لكتابته. وطرق تسويق الشعر متوافرة إلى حد كبير، إلى درجة أنّ سوق الشعر يدخله من لا يملك تأشيرة الدخول إليه.
■ ماذا تبقّى من جيل الستينيات في الشعر المغربي، الذي أنت أحد مؤسّسيه؟
□ قبل أن أجيب عن السؤال، أقول: إذا اتّفقنا مبدئيّاً على أن الشعر كونيٌّ، فسنكون قد اتفقنا على أن هذه الكونية تُحِلُّ الشاعر في المجتمع الذي يعيش فيه محلَّ منارة. لا أقول غيرها من الكلمات الضخمة؛ بل منارة قد تنطفئ في وقت وتشتعل في وقت، وإذا اشتعلت فلا تشتعل لأكل الزُّهوّ، إنما تشتعل من أجل الإنسان الذي لا يزال في حاجة إلى الإرشاد. لكن أيّ إرشاد أعني؟ الإرشاد الذي يجعلك أكثر حبّاً للحياة، وأكثر اندماجاً فيها، ولا يمكن أن يصحَّ ذلك، إلا حيث تعتبر نفسك في الآخر ويعتبر الآخر نفسه فيك. ولكن لا أريد أن يؤخذ مثل هذا الكلام الذي أقوله على أساس أنه كلام مأخوذ عن القدماء. لا، بل يؤخذ على أساس أنّه ضرورة لكي يفهم الإنسان واجبه على الأرض؛ وهو أن يُطوِّر هذه الأرض ويجعل من يعيش فوقها يعيش حياة سعيدة. بالنسبة إلى السؤال، أنا أتبرّأ من أنني مؤسِّسٌ، لشيئين: أنّه ما كلّفني بهذا الكلام أحدٌ، ولا طلبتُ من أحدٍ أن يكلّفني به. حُبّي للكتابة الشعرية هو الذي دفعني إلى ذلك، لكني أكاد أقول لهؤلاء الذين يعتقدون هذا المعتقد إني أتحدّاهم أن يثبتوا لي في ما كتبته دعوة إلى هذا الكلام. كلُّ ما هنالك أنه تحدث بعض المفردات التي لها علاقة بحياتي العملية، ولها علاقة بالقاموس الصوفي، لكن أؤكد لهم أني أفضل معناها الوارد بيني وبينك، وذلك أن المفردة الواحدة في المعجم الصوفي يراها الصوفي فلانٌ على الطريقة الفلانية، ويراها آخر على الطريقة الأخرى؛ معنى ذلك أنه ليس هناك معنى محدد لكلمة معيّنة.
يبقى شيء آخر أن هذا التصوف كما هو معروف عند الناس، يجب أن نفهمه على أساس أنه طريقة من الطرق، ولكنها طريقة فاعلة يستطيع بها الإنسان أن يسلك سلوكاً إنسانيّاً يجعله مُتحمّلاً لمسؤولية تطوير الكون حوله، كلٌّ في مجال عمله. فالتصوف الحقيقي الذي أفهمه هو التصوف الذي يجعل الإنسان ذا بصيرة وقّادة تشرف على ما يأتي بدلاً من تدير ظهرها له. وبهذا، فهو فلسفة.
■ بهذا المعنى، أنت لا تتفق مع مفهوم الجيل؟
□ أنا لا أزعم، وليس زعمي مطيّةً للكذب، أني وقعت على أناسٍ قرأتُ لهم قصيدة واحدة علمتُ بأنّهم أسسوا بها مشروعاً لا حدَّ له، ومن سوء الحظ أنه لم تتح لي الفرصة لأقرأهم. قضية الأجيال هي لعبة النقد، ولعبة النقد الفرنسي خاصة، وهي لعبة لا تستطيع منطقيّاً أن تثبت شرعيتها بتطبيقها حتى على الشعر الفرنسي المعاصر، بَلْهَ العربي والمغربي. كلُّ ما هنالك أن كثيراً من الشعراء هم نماذج مختلفة لكثير من نماذج الشعراء الغربيين، وقد ألححت في دروسي على هذه القضية. ومن ناحية أخرى، فإن شعراء هذه الفترة في العالم العربي، لا أستثني منهم أحداً، هم تبعٌ للاتجاهات التي عاشت في أوروبا، السياسية والاقتصادية وغيرها. بعض هؤلاء يكثر في ذكر بعض الخصوصيات التي ليست لنا، وهي خصوصيات تتعلق بوضعنا كمستعمَرين، بوضعنا كأناسٍ يعيشون عالةً على الغير؛ أي أن هذه الفترة عشناها بالنيابة عن غيرنا، وبدل أن نصنع حياتنا فقد صُنِعت لنا. بالنسبة إلى مسألة التجييل، فأنا لا أتفق معها. عندي دليل بسيط: أنا شيخ ولحيتي بيضاء وأنت في عنفوانك، ومع ذلك فنحن نتفاهم. القضية قضية نوعية وليس قضية عدد. العدد موفورٌ جدّاً، فيما النوعية تبقى. بالطبع، وحسب المنطق القديم، يطول الوقت من أجل تبنّي هذه النوعية، وإذا طال فهو يُصْرف في غاية أخرى، في اللهو واللعب. مثلاً، كلمة (الحرية) في الوقت الحاضر، تقتضي أن يتحدث الإنسان عنها انطلاقاً من المفاهيم العامة عند الضعفاء والأقوياء، وأن يُبَلْوَر في إطار ثنائية الضعف والقوة. كيف يمكن أن يتحرر الضعيف من القوي، والقوي من الضعيف؟ إنها تُطرح في إطار فلسفة الأنوار الأوروبية.
■ كيف تنظر إلى راهن الشعر المغربي؟
□ يجب أن نتحدث عن الشعر على أساس أنّه فنٌّ كونيٌّ؛ معنى ذلك أنّك أنت هنا في المغرب تكتب بالعربية، وأنا كذلك، وهناك آخر من يكتب بغير العربية، لكن الهواجس التي نعبر عنها تظل واحدة. هل في الإمكان أن يأتي إنسانٌ رائع جدّاً يستطيع أن يكتشف لغةً كونيّةً يُكتب بها الشعر؟ إذا أتى هذا الإنسان فإن القضية تصبح باطلة، وهي أنّنا نكتب بلغةٍ عشنا عليها أو تربّيْنا عليها، ولكن حين تبحث عن الموضوعات التي نكتب بها، فإنك تجد أننا نشترك فيها مع الآخرين. الحلم الحقيقي هو كيف نستطيع أن نكتب شعراً بهذا المعنى، إذا استطعنا ذلك في هذا الوقت، فإنّه بوسعنا أن نقول إن للشعر ماضياً وله راهن وسيكون له مستقبل.
■ ماذا عن الشعر النسائي؟
□ الشعر النسائي هو المؤهل رُبّما أكثر لأن يجد رواجاً كبيراً في العالم، إذا استطعنا أن نكتب شعراً بلغةٍ واحدةٍ. لا يعني بالضبط أنّ بعض الأعضاء التي للنساء ليست هي غيرها للرجال، إطلاقاً. الأحاسيس واحدة. إنما التعبير عن هذه الأحاسيس يوم يصبح غير مختلف عند الأبيض والأسود وغيرهما، ففي ذلك الوقت نستطيع أن نقول إنّ ملامح لغة كونية جديدة وُلِدت، وهذه اللغة لا تفرق بين ذكر وأنثى. أما الذي يفرق بينهما هو حاجة المفردة، حتى إن كانت مزدوجة، لإنتاج الأجيال القادمة. وهكذا، فإنّ مثل هذه الكلمات تدخل في نطاق قضايا النقاد وما إلى ذلك، لا أعيرها اهتماماً.
■ هل لديك طقوس معينة في الكتابة؟
□ في البداية كانت عندي طقوس، لأنني كنت في زمرة الرومانسيين، وكنت أنتظر حتى تطلّ الحبيبة من الشباك وتسلم عليّ. في ما بعد صرتُ أواصل الكتابة بصفة مستمرّة، إذ جعلتُ حياتي وَهْباً لها. وقد جعلني مثل هذا التفكير أن أتصل بشعري اتّصالاً أعلى من الاتصال الوجداني؛ وهو الاتصال الصوفي. الطقوس تكاد تكون ميكانيكية، أي أنّه في وقت كذا يجب أن أفعل كذا، في الزوال أو في المساء. بيد أنّ الحكمة أعطتني الفرصة لأطلع على كثير من الأشياء التي سهلت عليّ مهمة فهم العالم، ثُمّ إن الإنسان يمكن أن يكون شاعراً في ساعة الانشراح وفي ساعة النكد على حد سواء.
■ إلى أي حد تعتقد بأنّك كنت تكتب سيرتك الذاتية شعراً؟
□ لم أكتب إلى الآن سيرتي الشعرية، وربما لن أكتبها لسبب واحد بسيط يتعلق بأنّ قراءة الأنوات الذاتية لكتّابٍ تغري بشيء كبير جدّاً، وأنا لا أريده؛ وهو أن تسجل فضائلك وتتكتّم على رذائلك. نعم، كثيرٌ من الناس تجرؤوا على الأمر، ما جعلنا نعجب بقراءتهم. ثُمّ إني أقول: إذا لم أستطع أن أكتب ذاتيتي بالنصوص كتابة سيرذاتية، فهل معنى هذا أني عجزتُ عن كتابتها شعريّاً، وإلا فلا داعي لكتابتها،
لكن في كل الحالات، يبقى أن نعرف: كيف يستطيع الإنسان أن ينتصر على حيوانيّته؟
■ هل للشعر اليوم دور؟
□ أنا من الذين يعتقدون أن للشِّعر اليوم دوراً، ولكن لا يكون له دور إلا بعد تحقق الأشياء التي تدعو إلى مجيئه. لحدّ الساعة، ما زال دوره كدور الفنون كلها، بكل صراحة، يتخذه الناس جميعاً لتزجية أوقات الفراغ؛ أي لا يأخذونه على أنه وسيلة إلى معرفة الحاضر وإلى تطويع الحاضر إلى شيء جميل في المستقبل. الذي سبقنا إلى هذا هم أولئك الأشخاص الذي يشتغلون بالمخترعات المعاصرة، ومن سوء الحظ أن السبب في اختراعها هو تلبية حاجة الإنسان إليها، ولكن مع الوقت صارت تُستعمل لغير حاجة الإنسان. إن ما يجري في العالم يجري نِكايةً في الإنسان؛ تُخترع كثيرٌ من الأشياء لصالح الإنسان، ولكن سرعان ما تصبح مادة من المواد التي يجري توظيفها لغاية رديئة. ويبقى المنشود مِنّا هو أن يكون العالم وحدة متصلة، لأن أسباب الاتصال موجودة ومتحققة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى