شعرية اللون والاختزال عند المغربي تيباري كنتور

عزالدين بوركة
يقبع هناك، في ورشته ومسكنه الفسيح.. بعيدا عن العين قريبا من الصمت… في «قرية سيدي معاشو» (حوالي 60 كيلومترا عن الدار البيضاء)، الصمت سيد المكان والوقت. إنه عالم تيباري كنتور. ابن الدار البيضاء وإسمنتها وضجيجها.. نأى عنها بعيدا إلى الطبيعة وصمتها المدوي.
لدى التيباري كنتور تلعب العين دور الأذن، وما هي إلا تلك الرؤية الذاتية للعالم؛ إذ إنه لا يُجرّده فقط من أشكاله، بل يجعله خاليا من كل خط أو شكل أو مظهر، إنه يجعله فقط لونا مسطحا على الورق المعلوك Papier Maché، الذي يصنعه في مختبره في صمت رهيب. صمت يسكن تلك المساحة الخضراء حيث تقع ورشته/ مسكنه. يجعل الفنان التشكيلي تيباري كنتور من الصمت منطلقا غنائيا يركّب داخله ألوانه في مختبره الواسع. تيباري الذي فقد السمع عن عمر 14 سنة ليمتلك موهبة اللون، إذ سيتخرج بعد سنوات قليلة من المدرسة العليا للفنون الجميلة في الدار البيضاء، ومن ثمّ أكاديمية الفنون في مدينة لييج وأكاديمية الفنون الجميلة في مدينة بروكسل – بلجيكا.
قد يكون الورق سندا لا يُضاهيه سند آخر في تعدد إمكانية التقنيات التي يمكن مزجها فوقه، لهذا يختار هذا الفنان الورق كسند دائم، إذ يصنع التيباري كنتور ورقه الخاص داخل ورشته/ مختبره. فحينما يصنع الورق فهو يصنع بالضرورة عملا فنيا متفردا، عملا مستقلا وليس فقط سندا لصباغاته (الترابية).
يعمد هذا الفنان إلى تقنية الاسترجاع (الروسيكلاج)، إذ يجمع تيباري أوراق الأشجار وأوراق النباتات والأعشاب والقطن، ليراكمها ويعجنها ويخلطها، إلى أن تصير عجينة سميكة ورخوة، يضعها داخل إناء كبير مُشبك يسمح بمرور الماء حيث العجينة، التي تصير ورقا في آخر «عملية الإبداع» هذه، بعد عملية العجن والتنشيف. ما يُعطي لكل ورقة بصمتها الخاصة هي تلك الأخاديد والتحدبات (نتوءات بارزة) التي يستحيل تكرارها، مما يضفي على كل ورقة هُوية خالصة ويجعلها أثرا فنيا مستقلا قبل أن تكون سندا للون. تسمح تلك التحدبات/ النتوءات الناتجة عن العجن من الحصول على أخاديد ومنعرجات تقدم للون المسطح على طول الورق/ السند، نوعا من البهرجة واختلافا في درجاته، مما يُعطي للعمل أبعادا لا صباغية، محسوسة، إنها بهذا شعرية اللون بالمعنى الأدق.
إنه شاعر اللون إذن، إذ يُركّب مفرداته من معاجم مختبره، كأني به يشابه الشاعر ملارميه الذي يهوى قتل أحرف الجر والكتابة بأقل الكلمات.. إنه التيباري يصنع آثاره الفنية بأقل الخامات. إنها أعمال صامتة بهذا المعنى. إن كان الكاتب/ الشاعر يعمد إلى الكلمات للتعبير وإعادة صوغ العالم وذاته، فالفنان، والحال هنا التيباري كنتور، يعمد إلى الصباغة لتشكيل العالم وذاته.. «ولكن كليهما [الشاعر والفنان] يُترجمان بلغتهما الخاصة مسار التطور البشري نفسه» الأول عبر تعابير لغوية، والثاني عبر رؤية (العين)… الرؤية هنا هي الشيء الذي يعتمده تيباري كنتور لصوغ أعماله ومفرداته الفنية، التي لا تقول شيئا وتقول كل شيء، إنها تُعبّر عن كل شيء ولا تُعبر عن شيء محدد، إنها العالم كامل مجرد من أشكاله. إذ يعمد الفنان إلى اللون «ذلك الاتفاق، كما يسميه بودلير، بين نبرتين»- فقط والسند الذي يصنعه ليُركّب عمله الفني.
يخبرنا بودلير أن «التخييل أكثر علمية… لأنه وحده يفهم تماثل العالم»، أعمال التيباري كنتور تغوص بالمتلقي عميقا في المُخيّلة والتخييل الذي يعتمد على الصمت كمدخل له، حيث يعود المُتخيِل إلى ذاته إلى صوته الداخلي… هكذا هو التيباري حينما يصنع عمله، الذي يخلق في صمت، «لأن أعمل أحتاج لأكون في صمت» يخبرنا هذا الفنان.
يعمد التيباري الكنتور إلى أن يجعل ورقه سندا مباشرا لألوانه الترابية أو يُلصقه عبر ما نصطلح عليه بتقنية الماروفلاج (اللصق) هذه التقنية التي يتجاوز عمرها 3000 سنة، والتي نشأت في بلاد اليابان، إذ يعمد الفنان إلى لصق ورقه صغير السمك، على القماش أو الخشب (والحالة هنا عند التيباري القماشة) بعدما يَسكب عليه ألوانه، هذا اللصق الذي يضفي على الورق عبر الصمغ، نوعا من اللمعان، أو ما يمكن أن أصطلح عليه شعرية اللون ولمعانه.
تيباري كنتور الغارق في سره وصمته، يخشخش أوراقه ليصنع لها مستويات ومنعرجات فيها، كأني به يذهب إلى هسيس اللغة في صمتها العميق، حيث نسمع الكلمة ونحن نمرر عليها أعيننا. فإن تجربته تركيبية تعتمد على بناء رمزي للأشكال التجريدية، مع اختزال للألوان، والحفاظ على التقابلات الضوئية الممكنة، مرتكزا في ذلك على التقاط الأشياء وتوظيفها ضمن تقنية الضغط لتفرز نتوءات بارزة تدعو المتلقي للمشاهدة مع اللمس لجماليتها وتكوينها.
لا يتوقف كنتور على البحث في عوالم التشكيل ومدارجه، إذ بعد بحث طويل لسنوات أنتج تجربة مغربية خاصة يمتلكها هذا الفنان، فهو يُشعل الآن فرنه وهو يُجرّب في تقنيات الطين والطابوق والسيراميك، التقنيات التي اختار ألا يلجها إلا عبر بحث مهما طال زمنه داخل ورشته التي تبدأ بآلة مدّ الورق إلى آلة عجن الورق.
يظل التيباري كنتور من الأسماء التشكيلية البارزة والأساسية في الفن المغربي المعاصر، الأسماء التي، كما يُخبرنا الناقد والفنان التشكيلي شفيق الزكاري، «كان لها الفضل في إثراء المشهد الفني بإضافات جديدة على مستوى التقنية والسند، ومرجعا تاريخيا أسس بنوعية اشتغاله أسلوبا متفردا في معالجة بعض القضايا الجزئية في مجال تقنية الحفر، مؤكدا على حضوره وبحثه الدائم واستمراره التصاعدي في تجاوز الرتابة والتكرار، وتحديث هذه التقنية التي تعتبر من أعرق وأقدم التقنيات الطباعية إلى جانب تقنية (الليتوغرافيا) حيث حولها في بعض الأحيان من فعل استنساخي تعددي مماثل لتحفة فريدة تجاوزت قياساتها وأحجامها النسخة المعتادة، ومن أهم اهتماماته هو تدخله المباشر في العمل بعد السحب النهائي». فالتباري كنتور من القلة التي مكنت لنفسها أن تجد لمستها وأسلوبها الخاص والخالص، الذي ينطلق من المختبر والتجريب لا الأكاديمية الجافة.
(القدس العربي)