في غابة الشعر المصرية وحوش أكثر مما في السيرك

محمد عبد الرحيم

أختتمت فعاليات «مُلتقى القاهرة الدولي الرابع للشعر العربي»، وذهبت جائزة هذه الدورة إلى الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، وهو أحد المرشحين للجائزة، ومعه الشاعر سيد حجاب، قبل بداية المُلتقى، طرح الاسمين وتداولهما وحصر الجائزة بينهما كان معروفاً سلفاً، رغم تشكيل لجنة من المُحكمين.
وكانت الظاهرة الأكبر في هذه الدورة تتمثل في حالة الاعتذارات الكثيرة، وإحجام العديد من الشعراء عن المشاركة، وهو ما قيل إن هذه الدورة كان لابد أن تحمل اسم «ملتقى الاعتذارات». وفي ما يلي شهادات متباينة لبعض من الشعراء المصريين، حول الملتقى والأجواء المضطربة التي صاحبت دورته الأخيرة.

علي منصور
اللوم على مسؤولي الملتقى

الملتقي لا يختلف كثيراً عن الملتقيات السابقة، الرؤية نفسها، السلبيات نفسها، الأشخاص أنفسهم. الجديد هذه المرّة هو موجة الاعتذارات التي جاءت قبيل انعقاد المؤتمر بساعات، ولا أظن أن هذا شيء طبيعي في أي ملتقي دولي يعقد في أي دولة في العالم إلا إذا جاء موقفاً سياسياً محدداً تجاه قضية محددة، فيكون مبرراً وكحق مكفول، أما أن تأتي الاعتذارات آنية، ولأسباب متباينة من شخص لآخر، فهذا ما يثير علامات استفهام عديدة، ولكل حقه في رقابة أن يرى ما يشاء ويتخذ الموقف الذي يريد، شريطة ألا تنتهي الأمور بنا إلى عشوائية وعبثية. ثمّة حد أدنى من الالتزام مهم لتحقيق الأهداف، والحقيقة أنا لا ألوم المعتذرين بقدر ما ألوم القائمين على الملتقي، فما معنى أن توجه الدعوة في كل مرة لأشخاص بعينهم، وفي كل مرة يعتذرون؟ ذلك ببساطة لأن المهيمنين هم أنفسهم منذ عقود، بل الأخطر أننا ننحدر، فالدورة الحالية وهي الرابعة، إذا ما قورنت بالدورة الأولى التي عقدت في عام 2007 فستبدو بائسة للغاية.

خالد السنديوني
في الغابة وحوش أكثر مما في السيرك

ربما يكون ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي في دورته الحالية المنظمة من قِبل القائمين على الشعر الرسمي للدولة في مصر هو الأخير، بشكله المعروف برموزه وأسمائه المعادة. مياه كثيرة جرت في نهر الشعر في الأعوام المنقضية، ولم يعد المزاج الشعري العام يحتمل إلا التغيير واعتماد بصمة الشعر الحديث. أسماء جديدة تتلاحق وتتراكم لم تأخذ حقها شكلت بالفعل الوعي الشعري الجديد عبر فرز يومي وصبور عبر وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) الذي صار المختبر الرئيسي والأكثر تفاعلاً وانفتاحاً في صراع الجدارة الشعرية، إضافة إلى الإصدارات الشعرية بالتأكيد، وهو بدوره يلقي بظلال قاتمة على المعبد الشعري القديم تماماً، كما ألقاها على الواقع السياس في دولنا ــ بغض النظر عن سلبياته المجتمعية والسياسيــة من وجهة نظري ــ أضف إلى ذلك ظهور الأنطولوجيات الشعرية التي تتسم بالشجاعة، والتي تتجاهل عمداً القديم التقليدي وتنتصـر للمعاصر والجديد من الشعر (أنطولوجيا عماد فؤاد عن الشعر المصري مثالاً «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ» الصادرة مؤخراً)، والتي لا يمكن أن تكون انطلقت من فراغ.
على استحياء تم الزج من قِبل الهيئة المشرفة على الملتقى بعدد من الشعراء ذوي الحضور في المشهد الشعري، منهم على سبيل المثال الشاعر عاطف عبد العزيز والشاعر علي منصور، الأول بادر بالاعتذار المسبب عن حضور فعاليات الملتقى بعد أن قبلها مبدئيا، ويبدو أن موافقته المبدئية تسببت له في الحرج أو أنه أعاد النظر في الموضوع برمته، وأحس أنه بقبوله المشاركة يخون العالم الشعري الذي ينتمي اليه وحسنا فعل. بينما الشاعر علي منصور دفع بأسباب لاشتراكه منها الظاهر ومنها المضمر، وإن كنتُ أوافقه في أنه يحب ألا يقف في الخندق نفسه الذي يقف فيه أدونيس. أدونيس أحد كهنة تلك المؤتمرات العبثية، والقاسم المشترك الأكبر في كافة مؤتمرات الشعر الرسمي في البلاد العربية.
هــل اعتذار أدونيس وسعدي يوسف له أسباب تتعلق باسم مصر ودوائر الضغط الإقليمي؟ ربما، أم هو التقدم في السن؟ إضافة إلى اعتذارات أخرى مثل اعتذار عباس بيضون، الذي ربطه باعتذار الثنائي أدونيس وسعدي يوسف، ثم اعتذار صلاح فضل، كل هذا جعل من الاعتذار ظاهرة الملتقى لهذا العام. يبدو أن ما نشهده إرهاصات زمن جديد مل من طول التجاهل، دورة زمنية شعرية جديدة لم يعد أحد يقدر على إيقاف عجلتها أكثر من ذلك، أو على الأقل فشل في ترميم القديم المهترئ.
أخيراً على كهنة الشعر القديم وسدنة المؤتمرات الشعرية الرسمية أن يعترفوا أن زمنهم انتهى فعليا، وأن سيركهم المنصوب منذ سنوات بوحوشه العجوزة وألعابه المملة لم يعد يمتع، كما أن على القادمين بقوة إلى المشهد الرسمي ــ إن قدِموا ـ أن يحذروا من الفوضى.

محمود خير الله
مُلتقى عواجيز الشعر

قبل أعوام كثيرة، طلبوا من صاحب نوبل نجيب محفوظ، رأيه في عقد مؤتمر للرواية سنوياً في مصر، يكون تحت إشراف وزارة الثقافة، وساعتها اقترح محفوظ، بثقافة الروائي المخضرم، أن يعقد المؤتمر سنوياً كل عام، على أن يخصص مرة للشعر ومرة للرواية، وكان أن حدث ذلك، بطريقة خاطئة تماماً، بحيث يتم الاحتفاء سنوياً بالأسماء المكرسة ذاتها، والاحتفاء بالتجارب القريبة من شعر التفعيلة الذي يؤمن به طاووس الشعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي، العدو اللدود للشعر الجديد. ما حدث في «ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي» هذا العام، هو نتيجة طبيعية لوصول غير الجديرين بالمناصب إلى أعلى الدرجات الوظيفية، وبالتالي، لا يحصل الشعراء الحقيقيون من الأجيال الجديدة على فرصة مناسبة لإلقاء شعرهم في ندوات مصرية على أرض مصر، بحيث تذهب هذه الفرصة إلى مَن يرضى عنهم حجازي ومجموعته من عواجيز الشعر، ولا أستطيع أن أصدق كيف يتم استبعاد بحث مهم عن تجربة شاعر بحجم عماد أبو صالح، قدمته شاعرة كبيرة وناقدة أكاديمية مثل فاطمة قنديل، من المشاركة في الملتقى إلا إذا كانت الشللية هي المعيار الوحيد للمشاركة. العام الماضي، يوليو/تموز 2015، لم أصدق أن مؤتمراً شعرياً كبيراً يقام في مدينة «سيت» الفرنسية، لشعراء البحر المتوسط، قدم لي الدعوة للمشاركة في ندواته التي تقام يوميا طوال عشرة أيام، لم أصدق أن تحملني قصائدي ـ المحرومة من المشاركة في ندوات «المجلس الأعلى للثقافة» أو ندوات «معرض القاهرة الدولي للكتاب» ـ للسفر إلى دولة الشعر الأوروبي، بينما بيت ثقافة شبين القناطر ــ المدينة الصغيرة التي ولدت فيها في محافظة القليوبية ــ لم يوجه لي الدعوة ولا مرة واحدة، للمشاركة في ندواته، التي ينظمها مسؤولون في «الهيئة العامة لقصور الثقافة»، كما أنني لم أشارك من قبل أبداً في مؤتمر أدباء الأقاليم، ساعتها سافرت إلى فرنسا، بصحبة الشاعر أمجد ريان، وشعرتُ بأن من حسن حظي أن أحداً لا يدعوني للمشاركة في مؤتمرات بلادي، بينما أنا مدعو للمشاركة في أكبر مهرجانات الدنيا، ومثلي كثيرون من شعراء جيلي.

وليد الخشاب
انهيار علاقة الدولة بالمثقفين

توالي الاعتذارات والانسحابات من الملتقى علامة على انهيار منظومة علاقة الدولة بالمثقفين، التي استقرت في عهد الرئيس مبارك والتي تعتبر استمراراً لسياسة عبد الناصر الثقافية. اعتمدت تلك السياسة على احتضان الدولة – بالذات في إطار المجلس الأعلى للثقافة ــ لكافة التيارات الأدبية ومنها الشعرية، من محافظين ورجعيين ومجددين ومجربين. وكانت هناك دائما «قسمة» للمجال الشعري تسمح لعدد كبير من الشعراء بأن يشعروا بأنهم ممثلون في اللجان والمؤتمرات والجوائز، حتى إن ظل التجريبيون ــ بحكم طليعيتهم ــ خارج المجال الشعري المعترف به رسمياً، أو حتى إن تأخرت الدولة في الاعتراف بممثليهم. وتاريخ المجلس الأعلى للثقافة مع شعراء الشعر الحر وشعراء قصيدة النثر مثالان على ذلك.
ما حدث مؤخراً هو تفاقم شعور أجيال كاملة من الشعراء المجددين بأن الدولة ــ ممثلة في هذا الملتقى ــ ترفض الاعتراف بأي من ممثليهم، وتدعوهم للملتقى فقط كشهود على تكريس مدارس جمالية قديمة لا تمثل خياراتهم الشعرية، بل يشعر البعض بأن الملتقى يكرس لفكرة أن الطرق إلى جوائز المجلس هو عضوية لجان المجلس، بمعنى أن الدولة ترسم حدوداً رسمية للشعر في مؤسساتها ثم تقصر الاعتراف بالقيمة الفنية (من خلال الجوائز) على دائرة ضيقة داخل تلك الحدود ــ دائرة أعضاء اللجان ــ ومعنى هذا ببساطة هو تضييق المجال الشعري وإقصاء لغالبية الشعراء المجددين. الانسحاب والاعتذار تعبيران عن إقصائية سياسة الدولة الثقافية في هذا المؤتمر، تماماً مثلما كان المجلس الأعلى للثقافة إقصائياً في عهد السادات. إن أراد المجلس أن يكون بيتاً لكافة شعراء مصر، عليه أن يعود لمبدأ تقسيم المجال بين كافة التيارات.

شريف الشافعي
لماذا انسحب الشعراء؟

ثمة مقدمة، لا تخلو من ذاتية، لكن لابد منها، وهي أنني شاركت في عشرات المهرجانات الشعرية الدولية، في مصر وخارجها، منها مهرجان لوديف في فرنسا، وبريدج ووتر في الولايات المتحدة، وملتقى آسفي الدولي للشعر في المغرب، والملتقى المتوسطي الدولي في المغرب، ومهرجان مراكش الدولي، ومهرجان الشعر العربي في لبنان، ومؤتمر قصيدة النثر الدولي في القاهرة، ومهرجان طنطا الدولي للشعر، وغيرها، وكلها مؤتمرات جرى تنظيمها وترشحت للمشاركة فيها خارج إطار المؤسسة الرسمية المصرية، التي لا أتذكر أنني شاركت في فعاليات تخصها على مدار أكثر من 25 عاماً، إلا في معرض القاهرة الدولي للكتاب مرتين فقط، وأخيراً شاركت في «ملتقى القاهرة الدولي الرابع للشعر» (27ــ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2016).
من هذا المنطلق، فإن مشاركاتي في محافل الشعر الدولية، داخل مصر وخارجها، تنبني فقط لا غير على معطيات فنية بحتة، وقناعات حرة، لا علاقة لها بأي ولاءات مسبقة لأي كيانات بعينها، أو جماعات ضغط مزعومة، أو شلل تحكمها التنميطات والمجايلات والمصالح المتبادلة، أو سلطات ثقافية عديمة الجدوى، أو انتفاعات إدارية ضيقة، مما قد يتهافت ويتكالب عليها الصغار أو غير المتحققين. تلقيت دعوة من المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة للمشاركة في «ملتقى القاهرة الدولي الرابع للشعر»، وقبل إعلاني القبول النهائي أو الرفض، تحريت عن كل التفاصيل، عبر إيميلات متبادلة مع الجهة المنظمة استمرت لأكثر من شهر، وفي اللحظة التي اطلعت فيها على البرنامج النهائي للملتقى، قبل انطلاقه بحوالي عشرة أيام، أخطرتُ الجهة المنظمة بموافقتي «النهائية» على المشاركة، وهي اللحظة ذاتها التي أبلغ فيها جميع الشعراء في اللجنة بموافقتهم «النهائية»، بشكل مكتوب، ومن ثم تم طبع البرنامج، ونشره بواسطة الجهة المنظمة، مشتملًا على أسماء جميع الشعراء، ومنهم هؤلاء الذين اعتذروا ليلة الافتتاح، ومر أكثر من أسبوع بعد نشر البرنامج دون أن يعلن أي شاعر اعتراضه على شيء، ولا انسحابه، حتى ما قبل الافتتاح بيوم واحد، حيث تكرر أكثر من اعتذار، لأسباب مختلفة. لن أتعرض هنا لما يخص تلك الاعتذارات، فالمعتذرون أجدر بالحديث عن أنفسهم، وليس لي أن أقيّم مواقفهم أصلاً، فهي حق أصيل لهم، وأغلبيتهم شعراء كبار، ومن المؤكد أن لهم موقفهم المعتبر، أو مواقفهم بتعبير أدق. ما يعنيني هنا، هو توضيح عدة أمور تخص الملتقى، ومشاركتي فيه:
أولاً، أن «الوضعية» التي وافقت أثناءها على المشاركة، كانت تعكس أن عشرات الشعراء من أنصار الكتابة الجديدة وقصيدة النثر مشاركون، من جيلي وأجيال أسبق وأجيال لاحقة، ومنهم على سبيل المثال: قاسم حداد، عباس بيضون، رفعت سلام، محمد فريد أبو سعدة، أحمد الشهاوي، أمجد ريان، علي منصور، إبراهيم داود، غادة نبيل، جمال القصاص، عاطف عبد العزيز، فتحي عبد السميع، ميسون صقر، مؤمن سمير، عماد غزالي، هبة عصام، وغيرهم، وهو الحافز الذي شجعني على المشاركة وسط مجتمع لا أستشعر فيه الغربة، كما أن هذه الأسماء أثبتت انفتاح الجهة المنظمة، وعدم تحيزها للكتابة النمطية.
ثانيًا: أنه حتى ليلة الافتتاح، لم يعتذر أحد من هؤلاء، وحين بدأ بعضهم الاعتذار، بدأت «الوضعية» الأولية للملتقى تتغير أمام عيني، ثم حين تكررت الاعتذارات وزادت على المألوف، إذ بلغت خمسة أو ستة معتذرين في اليوم الأول، بدت صورة الملتقى مختلفة بعض الشيء عن تلك الوضعية الأولى التي أعلنتُ بناء عليها موافقتي على المشاركة.
ثالثًا: مع إعادة النظر إلى صورة الملتقى، ليلة الافتتاح، اتخذت قرارًا نهائيًّا بالمشاركة، لأن هذا الخلل الجزئي الذي حدث في صورة الملتقى لم يكن بسبب إدارته ولا لجنته العلمية، وإنما بسبب انسحاب الشعراء بمحض إرادتهم. فلو كان الملتقى إقصائيًّا من الأصل، لما دعا إليه هؤلاء الشعراء المجددين، الذين تجاوزا الثلاثين من بين سبعين مشاركًا، ولما كنتُ قبلت المشاركة فيه وسط غير متجانسين معي. كما أن هؤلاء الشعراء لو أنهم اعتذروا قبل إعداد البرنامج، لربما كان لي رأي آخر بعدم المشاركة، إذا حل محلهم في البرنامج شعراء آخرون لا يمثلون الكتابة الجديدة.
رابعًا: أن نظرة عابرة، وليست تقييمية، إلى المضمون الغالب على تلك الاعتذارات (الملتقى لا يتحمس لقصيدة النثر والقصيدة الجديدة بالقدر الكافي واللائق)، انطوت على أكثر من مفارقة. فمن ناحية، كيف ينسحب حاضر اعتراضًا على أن قصيدته هو غير حاضرة؟ ومن جهة أخرى: لو أن الشعراء المعتذرين مؤثرون وفاعلون ولهم أغلبية في العدد ووزن ثقيل في المشهد، فما خطيئة اللجنة العلمية إذن التي أدرجتهم بالفعل في البرنامج الرسمي؟ ولو أنهم غير ذلك أو أقل قدرًا وتأثيرًا، فما وزن انسحابهم إذن من الملتقى؟ بناء على ذلك كله، واحترامًا لتعهدي بالمشاركة أمام الجهة التي لم تخلّ بأي أمر إداري أو فني يخص مشاركتي في المهرجان، شاركت بالفعل في الفعاليات، التي شهدت في المحصلة حضورًا ليس بالهيّن لقصيدة النثر، والقصيدة الجديدة، التي يكفي أن يمثلها، كما في أي مهرجان في العالم، كيفٌ قديرٌ، لا كمٌّ فقيرٌ، فالأمر ليس بالحشد الشللي، لكن بالفردانية المؤثرة الفاعلة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى