كيمياء الكلام

توفيق قريرة

من المعلوم أنّ جميع الدراسات التي تتخذ من اللغة موضوعا وتبحث في الكلام البشري عرضا أو قصدا لا ترى من فائدة في التركيز على أثر الكلام في المتخاطبين. وما تزال العلوم الإنسانية غير إنسانية بالمعنى العميق للكلمة. فمن المثير للدهشة أن تسأل من يدرس الكلام ويركّز على نظامه واتساقه وتأليفه وتفكيكه أكان لسانيّا أم ناقدا: هل للكلام مفعول كيميائي على الأنفس البشرية؟ لأنّه سيعتبر السؤال خارج مجال اهتماماته أو هكذا بات يعتقد.
تأثير الكلام في الناس ما يزال يعدّ إلى اليوم مشغلا يخرج عن إطار العلوم اللسانية والنقدية؛ وحتى الدراسات اللسانية النفسية لا تعدّ هذا الموضوع من مشاغلها. وعدم الخوض العلمي في تأثير الكلام في الناس يردّ إلى أسباب كثيرة يطول شرحها ولا يعنينا الخوض في وجاهتها. فما يعنينا ههنا هو أن نبيّن مظاهر من تأثير الكلام في المتخاطبين تأثيرا له وقع التفاعل الكيميائي بين الأجسام الفيزيائية؛ فبهذا التفاعل يعيش الكلام ويكتسب حميميّته البشرية، ومن دونه يعدّ تواصلا جافّا لا ماء فيه كالتواصل بين الحواسيب.
كيمياء الكلام هي تفاعلاتنا مع كلامنا اليومي في ما بيننا، هي التي تجعلنا نشعر بالفرح حين نسمع ضربا من الكلام وبالحزن أو الغضب حين نسمع ضربا آخر منه، هي التي تجعلنا نضحك بالكلام ونبكي بالكلام ونعشق بالكلام وحتى نمرض أو نقضي بالكلام. الكلام بما هو جُمَل أو قضايا تؤلّف لا معنى له في ذاته؛ فهو كتركيبات كيماويّة مختلفة ينتج بعضها الصوديوم وبعضها ينتج الفوسفور.. الكلام بما هو مُنْتجٌ يشبه هذه المنتوجات لا مفعول له إلاّ إذا أردنا له ذلك المفعول. بناء عليه، فإنّ التأثير بالكلام أمر واع ومقصود فنحن لا ننتج كلاما فقط لننجز أعمالا حيادية كالبيع والشراء أو الوعد أو القسم أو حتّى لنقْل أخبار حياديّة؛ بل نحن حين ننجز بالأقوال أعمالا فإنّنا لا ننجزها خالية من التأثر والتأثير.
يعتقد البلاغيّون وكثير من وَرَثَتِهم من التّداوليّين ـ وهم على حقّ ـ بأنّ للمقامات وللعلاقات النفسيّة بين المتخاطبين وللعقائد والثقافة وغيرها من المعطيات الحافّة بالتخاطب آثارا في تأويل الكلام، غير أنّهم يديرون الظهور على ما يمكن أن ينتجه القول من آثار في المتكلمين ويسميه التداوليّون بدءا من «أوستين» بـ»عمل التأثير بالقول» ولا يعتبرونه جوهريا في نظرية الأعمال اللغويّة. فحين تقول لشخص: «أنت جميل» فالمهمّ في النظرية هو أن معرفة ما إذا كنت بقولك ذاك مادحا أو ذامّا أو متهكّما؛ لكن أن يظهر على الشخص أيّ تأثير أو أن يبدر منه أيّ ردّ فعل فذاك غير مهمّ في نظرية الأعمال اللغوية.
خرافة جميلة الجميلات التي تسأل مرآتها عن أجمل نساء الدنيا فتجيبها المرآة: أنت.. خرافة مناسبة تماما لما للكلام من قيمة في النفوس. ليس العجيب في المرآة أنّها تتكلم فقط، بل أنّها أيضا وهي تتكلم تثير الغبطة في أجمل جميلات الكون قبل أن تثير فيها الغيظ حين تخبرها بأنّها لم تعد أجمل الجميلات. وحين تقول لامرأة متوسّطة الجمال إنّها أجمل النساء فعندئذ تكون قد جرّبت دور المرآة وتكون بالكلام قد جربت دور المؤثّر السحريّ الفعاّل في امرأتك ذات الجمال العاديّ.. في هذا السياق فُهم صدر بيت أبي نواس الشهير «ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر» وفي هذا السياق يفهم أيضا كلام نزار قباني على لسان تلميذة تخاطب عاشقا «قل لي ـ ولوكذبا ـ كلاما ناعما» لأنّ الكلام ينقل الأكوان من وجودها الباهت إلى وجودها الفعّال بالانفعال.
في تواصلنا اليومي بالكلام من المستحيل أن يمرّ تواصل بين المتكلم والمخاطب من غير أن يترك أثرا في النفس ولئن كان ذلك يظهر في أشدّ المواقف انفعالا فإنّه موجود حتى في الكلام اليومي البسيط. فمن يناديك باسمك يؤثر فيك ومن يقول لك صباح الخير يؤثر فيك ومن يحدثك عن رحلته الصباحية في القطار قبل أن يصل إلى العمل يؤثر فيك.. ويمكن أن تكون شخصا لا يتأثر، لكن أنْ تصل إلى اللامبالاة فذلك يتطلب نوعا من ردّ الفعل على التأثير بالكلام وهو تأثر في ذاته.
أكثر الذين يستخدمون اليوم كيمياء الكلام لتوجيه الناس جماعات وفرادى في اتّجاه ما يريدون هم الإعلاميون والساسة، وكان للشعراء ذلك الدور في عصور عربية متقدّمة قبل أن يقوم بذلك رجال الدين. وفي الغرب كانت الخطابة أكثر فعلا في العامة، ولذلك كانت تقلق الفلاسفة والمناطقة لأنّ خطاباتهم كانت الأقلّ تأثيرا في العامة والجمهور.
الكلام يقرّب ويبعد بحسب مفعوله فينا. كيمياء الكلام لا تنتج المشاعر، بل تنتج المواقف أيضا وتنتج القرارات، لذلك لا يحبّ الديكتاتوريون على مرّ التاريخ الكلام الذي يصف خطأهم هم. وأحبّ الساسة العرب المدح وأنفقوا الثروات من أجل أن يصفهم الشعراء بصفات ليست فيهم أو فيها نزر قليل ممّا وصفوا به .قد تكون حساباتهم صحيحة ماداموا قد استمتعوا بتلك المدائح في حياتهم ونستمتع بها اليوم كما نستمتع بغزل شاعر بحبيبة موهومة.
يعتقد الناس أنّ الكلام لا يعطي مفعوله السّحريّ إلاّ إذا كان شعريّا أو خارجا عن الكلام المألوف أو الكلام من الدرجة الصفر على حدّ عبارة بارت، التي لم يفهمها كثير من مستعمليها. والحقّ أنّهم يقصدون نوعا من التأثر المقصود سلفا والمصنوع خُلْفا ليكون مؤثّرا في الممدوح أو في الحبيبة أو في المهجوّ أكانوا فرادا أو مجموعة. والحقّ أنّ التأثير ثابت في الكلام، سواء أكان شعرا راقيا أم كلاما عاديّا، فنحن لا ننتظر الأشعار أو الكلام الفخم لنتأثّر بالأقوال، بل إنّ التأثير بالكلام العاديّ والبسيط أبلغ من التأثير بالكلام الراقي، لأنّ التأثير بالأوّل يأتي من غير ميعاد ومن غير استعداد مثلما يكون الأمر عليه بالشعر. صحيح أنّ كثيرين يعتقدون اعتقاد ابن رشيق في أنّ الشعر ما سمّي كذلك إلا لوظيفته التأثيرية الانفعالية إذ يقول: ‘إنما سمّي الشاعر شاعرا لأنّه يشعر بما لا يشعر به غيره» (العمدة 1/116) ولكنّ هذا الكلام غير دقيق لأنّنا باعتبارنا بشرا من سمتنا المميّزة أن يشعر كلّ منا بما لا يشعر به غيرنا، ولذلك فإنّ تفاعلنا بالكلام يختلف عمقا أو سطحا شدّة أو خفّة لكنّه يختلف.
إنّ كيمياء الكلام تخلق شيئا فشيئا في الإنسان ضربا من الترسّبات في النفس تشبه الأحافير والأخاديد التي نجدها على الصخور البركانية، لذلك يؤلّف الكلام في أنفسنا ذاكرة: ذكرياتنا الكلاميّة ليست أقوالا، بل معها انفعالاتنا الأصليّة أو الجديدة حين ننشط الكلام تبعث معه تلك الانفعالات.
كيمياء الكلام تجعلنا نزداد انفعالا أو ننقص انفعالا بحسب الأشخاص والأعوام وربّما الأمكنة لكن لن يتوقف أثر التفاعل بالكلام ومعه وفيه إلا بتوقف حياة الكلام فينا.. لكنّ حياتنا في الكلام قد تستمرّ حتى بعد رحيلنا.. ومادام المرء حديث بعده كما يقال، فإنّ كيمياء كلامه باقية حتى بعد تحلّل كيمياء جسده: ففي كيمياء الكلام من الخلود ما ليس في كيمياء الأجسام.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى