لوحات الراحل حسن سليمان… إيقاع الطبيعة ولغة الصمت

محمد عبد الرحيم
«كانت خالة أمي، ترتق كل ملاءة سرير قديمة، ترتق، ترتق. وتصر قائلة: (مَن ليس له قديم، ليس له جديد). نحن الأطفال كنا نتندر عليها. والآن بعد أن تقدم بي السن، أشعر بأنها كانت على صواب، بل كانت حضارياً أنضج منا». كانت هذه الرؤية هي التي تسيطر وتحكم طبيعة أفكار وأعمال الفنان الراحل حسن سليمان (1928 ــ 2008) هذه الأعمال التي تنوعت وتباينت حتى استقرت خالقة جواً من الهدوء والرصانة والعمق، تذكّر دوماً بإيقاع الفن المصري القديم.
واحتفاء بتجربة الرجل المُمتدة والمؤثرة في التشكيل المصري، أقامت قاعة بيكاسو في القاهرة معرضاً يضم الأعمال الأخيرة للفنان الراحل. وما بين أعمال الطبيعة الصامتة التي اشتهر بها، ومجموعة الزهور، إضافة إلى النيل وعالمه، حيث المراكب والصيادين والقرويات على ضفتيه يغزلن طقوسهن الحياتية، كما غزل الرجل من أجسادهن حواراً بليغاً مع الطبيعة.
التجريد
لا تخطئ العين حالة التجريد التي تحيط الأشكال في لوحات سليمان، والتجريد هنا لا يقتصر على الشكل فقط، بل يمتد ليشمل الجو العام للوحة، هنا يبدو إسقاطاً متعمَداً للزمن، وما المكان إلا مساحة تخص اللوحة وحدها، ومنه تتخذ مفرداتها الجمالية، من لون وكيفية توزيع الإضاءة داخل اللوحة. حالة فنية متباينة يحاول الفنان في إصرار اكتشافها والقبض عليها قدر الإمكان. وفي الأعمال الأخيرة تصبح نغمة متواترة ومتكررة للاحتفاظ بالزمن، الذي فرّ ولن يعود، ورغم المظهر الواقعي الخادع في العمل الفني للوهلة الأولى، بحيث تصبح اللوحة الواحدة عبارة عن تجربة فنية لا تنتهي. يقول الفنان «في تجربتي هذه كنت في كل مرّة أرسم الشيء الذي أمامي، فأجدني أمسكت بشيء وفقدت شيئا آخر، هكذا استمرت التجربة، وهكذا أخيراً أدركت أن لا وجود لصورة أفضل من الأخرى، بل كل واحدة هي حالة مستقلة من الانفعال وأن لا آخر للتجربة».
اللون
تغلب الرماديات وما يُقاربها من ألوان على معظم اللوحات، خاصة الطبيعة الصامتة، حيث الأواني والقوارير والفخاريات، وحتى الزهور. ولم يكن الرمادي نتيجة اللونين الأبيض والأسود، ولكن من خلال تركيبات لونية توحي بهذا اللون المُسيطر. الأمر الآخر هو طريقة الإضاءة التي أصبح اللون القاتم هو الأكثر مساحة، حتى أن الضوء الذي يتسرب من النوافذ على استحياء، يصبح ضوء خافتا ويعكس جواً غائماً كأجواء فصل الشتاء. ويذكر سليمان عن مفهومه للتركيب اللوني أنه «يوجد نوعان من الألوان بالنسبة للفنان، اللون الذي تراه العين ويحكي دلالة الأشياء كما هي في الطبيعة، واللون الفعلي في العمل الفني. أقصد بالأول اللون المرئي الظاهري، مثل لون السماء ولون البحر ولون البشرة أو الشعر ولون الأشياء في الظل أو الضوء، ومثل هذه الدلائل الكونية التي تحدد معالم الأشكال لا يرهقنا تأملها. لكن هناك نوعية أخرى من الألوان يعايشها الفنان وترهقه في لحظة ما وهو يبدع، يرى مع برودة سواد الليل دفء حمرة قرمزية غريبة الشأن، أو اخضرارا أو اصفرارا يراه في نسيج اللون الأزرق نفسه. الفنان عليه أن يوجد مكانا لتلك الألوان الغريبة التي لا تراها العين».
لغة الصمت ولعبة الإيقاع
تبدو حالة تأمل الأشياء والموجودات هي الحالة التي تفرضها اللوحات على المُتلقي. بداية من توزيع الأجسام داخل اللوحة، والإصرار على حيوات هذه الأجسام داخل فراغ اللوحة. هنا يبدو صراع هادئ دون أن يهدأ. فلا توجد نهاية لمحاولة التواجد والمقاومة، وخلق علاقات ما بين الأجسام والأشكال. هذه الوحدة والاغتراب وسط هذا الفراغ من ناحية، إضافة إلى تأويل الشكل العادي، سواء لمجموعة من الزهور أو بعض القوارير والفخاريات، لتصبح بعيدة عن استخدامها، أو ما تعودت العين أن تراها. الصمت وإيقاعه يطلان ويحكمان اللوحة تماماً. لنلاحظ الخلفية في لوحات مجموعة الزهور والأواني.. جدران إسمنتية، وعالم يضيق، ونوافذ إن بدا ما خلفها أضحت بنايات شاهقة بعيدة، حتى أن مساحة الفراغ ما بين مقدمة اللوحة وخلفيتها تصبح بدورها مساحة وهمية، لا توحي ببيئة مناسبة لزهور تتنفس. الأمر نفسه في شكل آخر يبدو في حالة النيل وعالمه، حيث المراكب وخطوطها الهندسية القاسية، وصراع الرجال معها أولاً، قبل عمق ماء النهر، وهذه الحالة من الغموض التي توحي بها خلفية اللوحة، والتي تتمثل سراً لن يُكتشف. وما أجساد الرجال أو النساء إلا تجريدات أو ما يُشبهها وسط هذا العالم الغامض. لم يكن استعراضاً جمالياً لتفاصيل الأجساد، أكثر منه حركات حيّة على سبيل الاستئناس، وسط هذا السكون. الحركة أيضاً تشبه احتماء الأجسام مع بعضها في حالة القوارير وتراصها المدروس. ونختتم بهذه العبارات الدالة للفنان حسن سليمان، التي تفسر الكثير من حالته النفسية والفنية قبل رحيله، إذ يقول «خطواتي البطيئة وأنا ذاهب إلى محل البن البرازيلي لشرب القهوة، لم تمنع شخصاً أن يصدمني وهو يحمل جهاز تسجيل تنبعث منه بصوت عال أغنية (قوم أقف وأنت بتكلمني)، ابتسمت لأنه حتى لم يعتذر لي، قد تكون معاني الكلمات في الأغنية تحمل مدلولاً آخر، لكنها وجدت صدى عند الناس، لأنها تمثل محنتهم، فالكل أصبح يشعر بأن الآخر لا يحترمه.. ما الذي جعل لمثل هذه الأغنية شيوعا؟ هل انتهت كل متاعبنا ومشاكلنا؟ هل فقدنا كل شيء؟ حتى انحسرت أمنية كل فرد في مدينة كالقاهرة – ما دامت هذه الأغنية لاقت هذا الشيوع – هل انحسرت رغبته فقط في أن يطلب احترام الآخر له؟ هل فقدنا كل شيء؟ أظن أن من السخرية أن نجعل إنساناً فقد كل شيء، ولم يعد له مطلب سوى أن يحترمه الآخر ويحافظ على آثار أجداده وهو لم يجد من يحافظ عليه».
بيبلوغرافيا
الفنان حسن سليمان ولد في 17 سبتمبر/أيلول 1928 في القاهرة. تخرج في كلية الفنون الجميلة قسم التصوير 1951. دراسات عليا في سيكولوجية البعد الرابع أكاديمية بريرا ـ ميلانو 1966. دراسات في أسس التصميم وخصائص الحضارة الإسلامية. عمل مدرسا للرسم في الجامعة الشعبية للهواه ثم في الثقافة الجماهيرية، ومدرسا في المعهد العالي للسينما وكلية الفنون الجميلة من عام 1964 حتى 1972. وأستاذ في قسم الدراسات العليا في جامعة بلاكسبورغ قسم العمارة ولاية فيرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية.
المؤلفات
له عدة مؤلفات في الفن التشكيلي منها.. «حرية الفنان، الحركة في الفن والحياة، كيف تقرأ صورة، كتابات في الفن الشعبي، سيكولوجية الخطوط، سيكولوجية الحركة، ذلك الجانب الآخر، ومحاولة فهم الموسيقى الباطنية للشعر والفن».
إضافـة إلى تأسيسه مجلة «غاليري» عام 1977. وتصميم ديكور وإضاءة وملابس العديد من العروض المسرحية، والإشراف على إخراج وتحرير باب الفنون التشكيلية في مجلة «الكاتب»، ومجلة «المجلة».
(القدس العربي)