مخلفات الرواية التقليدية والواقع الملتبس

رامي ابو شهاب
تكمن بعض إشكاليات الرواية المعاصرة، ولا سيما العربية في أنها مسكونة بالمفردات التقليدية من حيث السرد والمنظور والشكل، فثمة هيمنة المنظور المعني بالحكاية، والأيديولوجية في سياق الراهن الواقع كما هو، غير أن هذا النهج أحدث اختلالات على صعيد إدراك الرواية لذاتها، أو بوصفها فناً يحتفي بقدر من التأمل في عالمها الداخلي، القائم على التشكيل، والصياغة.
وبما أن الرواية باتت نصاً متعالياً من حيث الانتشار والتمكن، غير أن الراوية العربية لم تغادر ملامح التشكيل التقليدي، أو مخلفات الرواية التقليدية، من حيث طغيان صوت الواقع أو القيم التي تنتمي إلى ما قبل الألفية الثالثة، ونعني المستقبل على مستوى البنى الفنية والفكرية للنص السردي.
ليس هنالك من مغامرات تحتفي بصيغ فنية مبتكرة، أو جديدة، ثمة توجهات واضحة للاشتباك مع مقولات المعاصر، بوصفها «موضة إنشائية» حيث يشتغل معظم الروائيين على موضوعات تحتفي باجترار التاريخ، وقضايا تتصل بتموضع الإنسان في عالم مختلط من حيث القدرة على تمثل الحداثة، والانتقال إلى ما بعدها، وكأن الرواية العربية تعيش في عصر غير عصرها، فهي تلهث خلف تمثل مجتمع، أو توصيف لم يصــــل بعد إلى إدراك قيمه الحضارية كمــــا يُعتقد، فهو ما زال يعاني من الحيرة، وهذا ما يعني أننا ما زلنا خلف التاريخ، بل إننا عالقون في وعيه الماضوي والآني، في حين أن تمثيلات المعاصر تستند ـ حقيقة- إلى عوالم جديدة، وقضايا بينــــية، فتطـــغى إشكاليات بسيطة في ظاهرها، ولكنها تعدّ عميقة من حيث قدرتها على عكس حــــيرة الإنســـان، في عالم بدأ يتخفف من المنظور الهادف إلى توصيف الواقع. وعلى الرغم من أن الرواية العربية تدعـــي قيماً فنية متقدمة من حيث الواقعية السحرية، وكتابة الرواية التاريخية من منظور الاســـتلهام والإسقاط، أو تمثل قضايا شائعة، ومنها الهوية، والمجموعات العرقية، أو الكتابة بنسق ما بعد استعماري، أو الكتابات المعنية بالخطابات الاثنوغرافية، ونماذج سلسلة البوكر تشي بذلك، غير أن هذا النتاج لم يرق إلى مستوى تقديم رواية عربية، يمكن أن تنتقل إلى مستوى العالمية، وهذا ما يقودنا إلى مناقشة حضور الرواية العربية في المشهد العالمي، حيث بتنا نحتفي بروايات من سائر أنحاء الكرة الأرضية لروائيين غربيـــين، ولاتينيين، وأتراك، وأفارقة، في حين أن حضور الرواية العربية يبدو عالقا في شرك الواقع ومخلفاته، لكونه معنياً فقط بالإنسان النسقي كما تعرفه العقلية العربية.
لا شك أن منظور الواقع، وطريقة التعامل معه يعدّ جزءا من المشكلة، ولهذا ينبغي قراءة هذا الأثر، ومقدار تمكنه من الرواية العربية بأثر من تحولات الرواية العالمية، التي استمرت بتجاوز أزمتها الواقعية، والنسقية، وحتى السياقية، في حين أن الرواية العربية ما زالت عالقة في مفهوم الرواية بوصفها انعكاساً للواقع، ولكن أي واقع نعني؟ لا شك أن الواقع بات مفهوما فاقدا لشرعية التنظير الأرسطي القائم على المحاكاة، أو نمط الرواية الواقعية الأوروبية، فلطالما سادت إشكالية المرجعية الرواية التقليدية، وبالتحديد من حيث مقاربتها للواقع انطلاقا من مقولة أرسطو في المحاكاة، فالرواية التقليدية تعول كثيرا على الواقع ومحاولة الاقتراب من نبضه، وتصويره إلى حد الاستنساخ، وهذا ما يكاد يوجد بامتياز في روايات القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، ونذكر بهذا الصدد ديكنز وبلزاك، وفلوبير، وتولستوي، وممن جاء بعدهم من أنصار المدرسة الواقعية.
يمكن أن تحدد أبرز معالم الروائيين الواقعين بحفاظهم على الشكل الثابت للرواية، من خلال احتواء الرواية على العناصر – يمكن أن ننعتها بالآمنة – كالتسلسل الزمني للأحداث، والاعتماد على الحبكة، علاوة على التركيز على الشخصية، ومعاملتها على أنها كائن حي له وجــــود فيـــزيائي؛ ولذا فإن الكاتب يصف ملامحها، وما يرتبط بها من أحداث ومكان وزمان، فكان التزام المنطق يعد أبرز دعائمها. وهكذا فإن الرواية التقليدية كانت تتشكل عبر محــــورين، هما: المحور الأفقي، الذي تمثل بالارتباط التاريخي، وبذلك كان التاريخ الصورة التي يجـــب ألا تحيد عنها، والمحور الآخر الرأسي الذي يتمــــثل بالارتباط الاجتماعي. وفي كلا المحورين التزمت الرواية بالقيم الاجتماعية والخلقية، والأخلاقية، وببنية متماسكة محكمة، ولكن الباحث في مسار الرواية التقليدية لا يعدم ظهور محاولات خارجة على هذا النهج، ولكنها محاولات مبدئية قادها الروائي فلوبير، من خلال روايته الشهيرة «مدام بوفاري» محاولا إعطاء النزعة الواقعية مدلولا حسيا، من خلال شخصية مدام بوفاري، وبارتكازه على أساليب جديدة تعتمد واقعية التحليل، وصرامة اللغة، كما يذكر عبد الملك مرتاض في كتابه «نظرية الرواية».
لقد كانت الرواية في ذلك الزمن تمثل انعكاسا لفلسفة العصر البورجوازية، ومحورها الإنسان الذي كان ينظر له بوصفه محور الكون، كما يصف روب غرييه، ولكن هذه النظرة ما كانت لتستقر في مطلع القرن العشرين، حيث أخذت الأمور بالتبدل والتحول، ما دفع الرواية إلى التحول أيضا، انطلاقا من عدة عوامل، ومع ذلك ينبغي ألا تبقى كما هي، إنما أن يٌعاد تقييمها، والبحث عن الجديد منها، وهكذا ينبغي التعامل مع رواية الألفية الثالثة في ضوء عوامل جديدة.
إن الناظر في النتاج الروائي في القرن العشرين، يلاحظ أن البنية الروائية المتماسكة قد أصابها التصدع في الشكل والمضمون، فهل كان هذا التصدع سببه نتاج العصر؟ أم وعي الرواية لذاتها؟ لا شك في أن الجواب ينقلنا إلى أكثر من مستوى، وربما كان من الصعوبة بمكان الإجابة عنه، كون الأمر لا يتحدد بقوة فاعلة تقود الفعل الإبداعي، إنما هو مرتهن إلى قوى تبدو للوهلة الأولى غير معنية بوعي الرواية الذاتي، إنما بوعي العولمة، ولكن نتاجات الكتابة السردية تلجأ إلى تفكيك هذه العولمة والتغذي على مكوناتها في الوقت عينه، لقد أحدثت العولمة طغيان بعض الإشكاليات الإنسانية، ولكنها أيضا حملت قدرات على خرق معاني المحلية إلى عالم يتحدث لغة واحدة. إن أسباب الارتداد في الكتابة العربية هيمنة منظور قاصر عن اللحاق بأسئلة الانتقال من الواقع إلى المستقبل، وهذا يكاد ينسحب على مفاهيم كثيرة في العقل العربي، غير المعني بما سوف يؤول إليه العالم، إنما معنيّ بمنظور رصد الظاهرة الآنية، وتحليلها، ثمة تأجيل البحث في القضايا التي تحال إلى المستقبل، أو إلى عالم الغيب الذي لا يفضل أن يبحث فيه، كونه أمراً خارج السيطرة، إننا نفضل أن نتعامل مع المستقبل من وجهة نظر الشيء الذي لا نتوقع حدوثه، ومن هنا لا تستشرف الرواية العربية قدرة على تصور مجتمع عربي جديد، حيث تطغى علاقات جديدة، ليس هناك من رواية إمتاعية، تقرب من قضايا العاطفية، والجاسوسية، والبوليسية، أو الأبعاد الأخرى لكينونة العالم، أو البحث في موضوعات البيئة، أو الطبيعة، وحتى قيم الرقمية، وحتى مفاهيم تتعلق بالتسامح والمغفرة، كما يمكن أن يستدعى التاريخ ليعاين في ضوء الفهم الجديد، لا شك بأننا ما زلنا لا نملك قدرة على تقبل أن يكون ثمة رأي مخالف، رواية تستند إلى قراءة جديدة للتاريخ، فقط ثمة أمين معلوف من استطاع أن يحدث زحزحة في تمثل التاريخ بصورته المألوفة إلى فهم جديد إشكالي، كل ما سبق يمكن أن يؤدي إلى أن فائض المتعة في الرواية العربية، الذي بات مجالاً ضيقا، إذ لم نعد نقرأ الرواية بوصفها مغامرة فنية، وإنسانية، إنما بوصفها فعلا مصطنعاً يخلو من الروح، فهناك مئات الروايات التي تصدر في السنة، ولكنها تبدو أقرب إلى ثرثرة مجانية، كلاسيكية اللغة، والأسلوب، وفي معظم الأحيان ثمة عدم وضوح لإدراك التمايز بين الكتابة بوصفها نصاً متخيلا، والكتابة بوعي الواقع ومفهوم الانعكاس، لا باعتبارها ممارسة إبداعية، فضلاً عن رؤية تستند إلى منظور فكري واضح المعالم. إن الرواية نتاج مجتمعي، أي ثمة عقل جمعي ينتج الأقوال، غير أن هذا العقل يبدو مشتتاً، غير مستقر على وجهة ما في تحديد موقفه من المستقبل، وبعبارة أخرى تجاوز مخلفات الواقع، والتقليدية السردية، وهذا يعني معنى الحياة المجمل.
(القدس العربي)