مظهر أبو النجا… فلاح السينما المصرية «المنسي»

كمال القاضي

في فترة السبعينيات واكبت الموجة الكوميدية في السينما المصرية الانفتاح الاقتصادي، الذي أدى إلى ظهور تيارات جديدة في الفن والأدب، عملت على تهييف القيمة الثقافية للإبداع وانحرفت بالمسرح والسينما إلى مسار آخر نحا نحو التجارية الفجة، فأفقدهما المضمون الهادف وعطّل المواهب الحقيقية لفترة طويلة، فلم يكن أمام العناصر المتميزة سوى القبول بالغث كأمر واقع لحين تغير المناخ وإفراز إبداع جديد، يلبي الاحتياج الطبيعي ويتجاوب مع المشاعر والأحاسيس الجماهيرية الراقية ويدفع بالمجتمع إلى الأمام.
وإزاء الرغبة في تحقيق هذا الحلم تحمل البعض من الفنانين والنجوم عناء الانتظار طويلاً أملاً في انقشاع الضباب ونقاء الأجواء ليتسنى لهم تقديم ما يرضي طموحهم. من بين هؤلاء الفنانين الذين ظلمتهم فترة الانفتاح الاقتصادي بدورانه في فلك الحركة الفنية رغماً عنه، الفنان مظهر أبو النجا الذي ظل أسيراً للأدوار الهامشية وعانى الأمرين من أجل تحقيق ذاته وإثبات موهبته كممثل له طريقة خاصة في الأداء الكوميدي والفكاهي.
هو حالة فنية فريدة من نوعها، تشكلت موهبته من تلقائيته وبساطته التي تميز بها منذ اكتشافه وطوال مشواره الفني الطويل، فقد وجد مظهر فرصته في الأعمال التي أنتجها رفيق دربة محمد نجم، فاقتنص الفرصة لينبئ بموهبته التي ظلت حائرة لسنوات، فقدم مسرحية «زوج في المصيدة» على سبيل التجريب الكوميدي الخفيف، فلفت أداؤه البسيط الفئات الشعبية من جمهور المسرح، فشجعه النجاح على الانتقال إلى مسرح الريحاني، الأكاديمية الأكبر في العلوم المسرحية وفن التمثيل في عام 71 فقدم أهم أعمالة «باي باي» و»الملاك الأزرق» و»الإخوة الأندال»، ووجد أبو النجا نفسه في هذه النوعية من الكوميديا الإنسانية الراقية، التي أفادته كثيراً كممثل في ما يخص التنوع وطريقة الأداء وتعميق الحس الإنساني، وتضمينه كمعنى مهم داخل الإطار الكوميدي.
ورغم الدروس المستفادة التي حصّلها الفنان الراحل خلال وجوده في فرقة الريحاني كضلع أساسي من أضلع التعبير التلقائي السهل، إلا أنه أضطر إلى العمل بآليات السوق في ما بعد، إثر ظهور موجات المسرح السياحي، التي لعبت على عنصر الترويج في مغازلة صريحة لرغبات السائح العابر، الذي لا يكترث كثيراً بالمضمون ويهتم في المقام الأول بمشهيات المسرح التقليدية، الضحك والاستعراض والاستظراف في بعض الأحيان، وقد ظلمت هذه النوعية بالفعل مظهر أبو النجا لاستغراقه فيها فترة طويلة، بحكم أنها النوع الوحيد المطلوب والرائج في فترة الانفتاح الاقتصادي سالفة الذكر، التي ألقت بظلالها على كل مناحي الحياة الثقافية، وشكّلت ظاهرة استمر تأثيرها إلى بداية التسعينيات، فكان من سوء الطالع أن ارتبطت بها مواهب كوميدية مهمة، مثل سيد زيان ومحمد نجم وحسن عابدين ووحيد سيف ومحمد أبو الحسن وآخرين، وبامتداد الظاهرة خرجت مسرحيات مثل «عبده يتحدى رامبو»، و»عش المجانين»، و»الكدابين»، و»الفهلوي»، و»نصب واحتيال»، و»دلوعة يا بيه»، و»عليوة مسافر لندن»، و»أولاد دراكولا».
وقد حذت السينما حذو المسرح في تلك الفترة فجرفت المواهب نفسها إلى هاوية الأعمال التجارية، وكان من ضحاياها أبو النجا، الذي لم يجد بداً من قبول الشروط المجحفة لموهبته الكبرى بالاستمرار في أداء دور الفلاح الساذج الذي لا تميزه إلا ضحكة بلهاء وجملة تكررت كثيراً فصارت عنواناً للشخصية «يا حلاوة».. كلمة ظل يرددها الفنان في كل أفلامه من باب السخرية والتهكم في سياقات درامية مختلفة، فارتبطت به كلازمة في الأداء، المعتادة لدى بعض نجوم الكوميديا أو غيرهم، ولكن رغم استخفاف السينما بموهبة مظهر أبو النجا واستغلالها على نحو كوميدي هزلي، تظل هناك أدوار هي الأهم والأبرز في مشواره ومسيرته، منها «إحنا بتوع الأتوبيس» وهو الفيلم السياسي الذي تشارك في بطولته مع عادل إمام وعبد المنعم مدبولي، وأيضاً فيلم «رجب فوق صفيح ساخن»، ثاني تجربة له مع عادل إمام، ولولا التناول السطحي الساذج لقصة يوسف إدريس لكان فيلم «العسكري شبراوي» واحداً من أفلامه المعتبرة. وباستثناء هذه العينات السينمائية القليلة المتميزة، مضى مظهر وهو الفنان القدير في استسلامه لتيار السينما التجارية، فقدم العديد من الأفلام التي كان هو فكاهيتها الوحيدة، «هالو كايرو ـ المشاغبون في البحرية ـ الغني والفقير ـ المخطوفة ـ وصية رجل مجنون ـ رمضان مبروك أبو العلمين حمودة». التجربة الختامية له مع السينما والكوميديا في دور ثانوي مع محمد هنيدي كان بالإمكان أن يكون أكبر وأعمق لولا شروط السوق ذاتها التي اقتضت أن يلعب النجم الراحل دورا متواضعا لأن الشباك عاوز كده.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى