21 غرام.. للكاتب إبراهيم جابر إبراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-
لا أعرف إن كان هناك من شاعرٍ قبل محمود درويش قد وصف ” شكل الروح في المرآة “، لكنَّ طبيباً يملك روح شاعر مثل دنكن ماكدوغال ذهب إلى أبعد من ذلك حين قرَّر وضع الروح في الميزان !
تعرض الطبيب الأمريكي لحملة سخريةٍ هائلة من الصحافة، ومن أصدقائه الأطباء الأمريكيين، عندما قرَّر في لحظة من التجلّي في شتاء 1907 ان يعرف ” وزن الروح ” بالضبط، وكم حصَّتها من وزن الانسان. ورغم ما رافق ذلك من تثبيط لهمّته، لكنَّه سرعان ما شكَّل فريقاً من الأطباء المساعدين، وصنع ميزاناً ضخم الحجم بكفَّتين واسعتين جداً، وشرع في عمله “الشِعري” !
كان على “مسرح العمليات” أن يستقبل مرضى عديدين في ساعات الاحتضار الأخيرة، ليقوم “غال” بوضعهم في كفة الميزان، كل ساعة، وتحت مراقبة حثيثة، ثم يزنهم لحظة الوفاة وبعدها، ليكتشف بعد أن قام بوزن عدد كبير منهم، وبعملية حسابية أن وزن الروح هو “21 غراماً” من وزن الجسد.
دامت تلك التجارب ست سنوات كاملة، قبل ان تصل لتلك النتيجة البالغة الدقة، لتوصف لاحقاً من الجهات العلمية والدينية على حد سواء بكلمة واحدة ” هـراء ” !
وكما هو متوقع، لا بدَّ أن لا ينتظر العلماء الروس وقتاً طويلاً ليحاولوا ما حاول “الامريكي” قبلهم، حيث شهدت معامل موسكو الطبية، وسط تكتّمٍ شديد، تجربة مشابهة، ولكن بتقنيات أكثر تطوَّراً، فهم فَضلاً عن وزن الجسم، قبل وبعد الوفاة، وضعوا المحتضر داخل وعاء زجاجي موصول بأجهزة دقيقة لرصد أي تغير فيزيائي يحدث حوله أو فوقه مباشرةً لحظة مفارقة الروح، ورغم أن التقرير النهائي للتجارب لم يكن أكيداً تجاه نقصان الوزن، وقصة ال “21 غراماً” الثمينة، لكنه راقب تغيرات فيزيائية مهمة لحظة الاحتضار.
وخلُصَ الروس الى أن الروح تضم جسيمات تحت ذرية وليس لها كتلة يمكن قياسها، إذ يمكنها أن تمر عبر الجبال والحيطان، وبسرعة الضوء لكن دون أن تتكسر مِثله، وفي التجربة ذاتها رصد الأطباء الروس سحابة مفاجئة من الجسيمات النووية صعدت من جسم الميت فور وفاته !
لم يجزم أحدٌ بما حدث .
ولستُ أعرفُ إن كان اليابانيون، قد حاولوا شيئاً في هذا الأمر، لكنهم ليسوا مشغولين عموماً بهذه الميتافيزيقيا.
لكنَّ أحداً لم يتحدث عن مَحمول تلك ” الأنفاس ” . عن ذلك النشيد أو إن شئتَ العواء الأخير للروح وهي تُجرُّ مثل خيطان صوف عالقة بحقل شوك .
حتى أن مخرج الفيلم الشهير ” 21 غرام ” تعامل مع الروح الثمينة بازدراء ، وتقليلٍ من شأنها ، حين وصفها بأنها تعادل وزن خمس فرنكات معدنية او لوحاً صغيراً من “الشوكولا” .
وربما لم يكن الطبيب ، الذي امتلك جموح شاعر ، دنكن ماكدوغال، محظوظاً بتقنيات تصوير فائقة القدرة كما تلك التي يبدّدها العِلمُ الآن على هراء حقيقي، وإلّا لحظينا الآن بصورٍ لتلك الشهقة وهي تتناهى الى الأعالي مثل استغاثةٍ أخيرة ، ولرأينا الروح العظيمة وهي تعانقُ صاحبها في لحظة التخلّي .
..
وها أنا منذ ثمانية أشهر أراقب تلك النبتة الصغيرة التي جفَّت عروقها، واصفرَّت تماماً، وماتت بالمعنى “الحيوي”، لكنَّها واقفةٌ كتلك الخضراء التي بجانبها، بذات القوام المشدود ، لم تنقصف روحها مثل مخلوقٍ خائب .
..
ولم يأتِ شاعرٌ بعد ماكدوغال، ليفكّر : كم غراماً سيكون وزن الحبّ حين ينسلُّ من الجسد مثل نفثة المَصدور ؟