الضَبع و العَتَبة – للقاص إبراهيم منيب المومني

الجسرة – خاص

بدأت سماء القرية بالتلبد منذ الصباح، إنشغل الرجال في تنظيف آبار المياه، استعداداً لاستقبال ما تجود به مآقي السماء، أما النساء فقد خرجن ليردنّ على النبع، بجرارٍ فخارية كالحة اللون.
صفية – أجمل فتيات القرية – اختارت وقتاً متأخراً تتزاحم فيه النسوة حول النبع، لكنها بدلاً من أنْ تكمل طريقها الى الشرق انعطفت شمالاً، حيث كان الاستاذ عبد الاله بانتظارها بجذوة روحٍ وإتقاد شهوة .
منذ اليوم الأول، قال لها عبد الاله ساخراً: الحب العذري يا صفية مثل الجرة المثقوبة، انتِ عاقلة، و العاقل لا يشتري المياه في جرة مثقوبة.
و الحقّ أنّ صفية لم تفهم ما الرابط، لكنها وهبته جسدها النحاسيّ عند أول شهقة، و مع أول عواء أطلقه عبد الاله في طرف الغابة، فكان ما كان، ملحوقاً بلقاءات عديدة على حين غفلة، أو على عتبة كدٍ ما.

حين جاء عبد الاله أول مرة إلى القرية، أولم له المختار، و قال له ماضغاً شاربه: ” يا عمي ، انت واحد منا .. قرّي الاولاد، واسكن بغرفة المضافة، لأنو سكن المدرسة بنفعش زريبة ” .
لعق عبد الاله الطعام عن كفه حامداً الله ثم قال: لا يا عمي ، بسكن بالمدرسة أحسن.
والد عبد الاله كان فدائياً جباراً، قتل عشرةً من الهاغاناه قبل أنْ يقبضوا عليه على أعتاب الغور بعد وشاية راعٍ إسمه ” يونس.
والمضحك أنّ فرداً غراً من الهاغاناه قتل الراعي لاحقاً، لأنّ إسمه يذكّره بضابط نازيّ إغتصب أمه سالفاً.
يوم دُفن والد عبد الاله بطحت البنادق، و خشعت الابصار مصلية، و متعهدة بالثأر.
‏بعد عامٍ من ضياع الضفة، جاء عبد الإله من عمّان إلى القرية مُطفأ الأحلام، خبت شيوعيته و ضاع تدينه، كان دائماً على عتبة الهَرب، كان دائماً على حافة الكلام، لكنه كان نادراً ما ينطق، و كان لا يشاهد إلا بسيجارة بين يديه، و كتابٍ يحمله.

‏القت صفيه بنفسها بين ذراعي الأستاذ، كان الضباب قد بدأ بالحلول، لم ينبس بغير كلمة الترحاب، لم يتكلم، و لم تكسر هي صمته .
‏ حين إنتهيا و أشعل لفافة رطبة قالت له: انت بتدخن كثير ..
‏فأومأ موافقاً ..
‏فجأة جاء الصوت من ألأجمة المتموّجة في الخلف، كان ضبعاً أو ذئباً، لم يكن بالامكان الجزم.
‏” أهربي !! ” صاح بها و هرب ، خطواتها كانت أبطأ، إنقضّ عليها الكاسر بفكيه، و لم يكن بإمكان عبد الاله سماع اختناقها بدمها، كون الطريق قد جرفه إلى القرية.

‏جاء الطرق على الباب صاخباً و متعجلاً، فتح الأستاذ الباب فقال له، أخذ الشبان : ” بندور عبنت ضايعة ، و بدنا فزعة ” ..
‏خرج أهالي القرية للبحث، جاء الفجرُ بارداً، بدأت الأمطار بالهطول، علا حفيف السنديان بوحشية، نادى أحد الرجال: يا مختار !!
‏كان وشاح صفية عالقاً بهشيمٍ يابسٍ على الأرض، بجانبه كانت الجرة مكسورة و مكومة، أما الجثة فقد وجدوا بقاياها على مقربة من الوشاح.

‏أمطرت طوال الليل ..
‏بعد أنْ دفن الرجال الجثة، ذهب عبد الإله الى طرف الغابة، فوجد الوشاح مكانه، رفع الوشاح، فوجد كتابه مرمياً تحته.
‏حمل الكتاب و الوشاح، أشعل لفافة رطبة، و غادر المكان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى