العبورُ إلى الشعر والكينونة الممكنة في «فتحتها عليك» لوداد بنموسى

الجسرة الثقافية الالكترونية

*محمد الديهاجي

المصدر / القدس العربي

أتصور أن الشعر، هو إقامة إنسانية في الكلمة المسجورة بالإيقاعات، القادرة وحدها على منحنا حق الإقامة الفعلية، فوق هذه الأرض، بغض النظر عن الحدود الوهمية، تلك التي لا تعشش سوى في عقول الداعشيين، نخبة مثقفة كانت، أم طبقة سياسية، أم فقهاء دين، أم شعراء حتى. لأنهم جميعا، في هذه الحالة، يتحولون إلى مجرد عسس للإقصاء والعنف والتطرف، بكل تمظهراته المادية والرمزية.
حتى ، في الشعر، قد «نتداعش» بتحويله إلى ميتافيزيقا أو دوغما، تقضي على طموحنا كبشر، في أن نقيم في إنسانيتنا، أي في أن نكون كونيين. والحق أن الكونية هي قدرنا، هي قدر الشعر الأصيل على الأصح. ففي كلمة عميقة جدا للشاعر الفرنسي إيف بونفوا، كتبها بطلب من بيت الشعر في المغرب، بمناسبة اليوم العالمي للشعر، مارس/آذار2015، يقف عند سرّ الشعر الحقيقي متأملا، فيقول: «الحساسية الشعرية هي الحدس بهذه السلطة، بهذه الحياة داخل الكلمات العالية في لغاتنا. الشعر هو العمل الذي به نخلّص، عبر الإيقاعات والأصوات، الكلمات الأساسية من عبء المفهوم؛ نهبها القدرة على التعرف، من بين الكلمات التي نتداولها، على تلك القريبة منها، وتبعا لذلك على أصدقائنا، الذين معهم سوف نتمكن من أن نهب هذا المكان معنى وغنى أكبر. الشعر لا يقول، إنه يجمع ويؤسس، يستقبل في موطن العمق، هذا ما يمكن أن يكون تدريجيا إقامة إنسانية تجمعت أخيرا» (العلم الثقافي- مارس2015. ترجمة منير السرحاني).
في الشعر المغربي الراهن، قليلة هي الأسماء التي استطاعت أن تُحدث جرحا غائرا في القصيدة، بوعي متشاكس؛ كأن تتفتّح، بتكثّر واع، على أراضي النثر الخفيضة، أو أن تجعل من التشكيل مرآة بلورية في مواجهة اللغة، أو أن تضيع في مهب نار البياض مثل فراشة منذورة للهب. ومن بين هذه الفراشات الرهيفة، نلفي الشاعرة البهية وداد بنموسى التي اختارت، بوعي جمالي مغاير، الارتماء في لهب تجربة شعرية محتملة وغير وشيكة، خصوصا في منجزها الشعري قيد الدراسة والمكاشفة «فتحتها عليك»، وهي بالمناسبة إضمامة باذخة، صدرت من دار النشر مرسم، وتجمع بين الوميض وصور فوتوغرافية لنوافذ مغربية قديمة، بالأسود والأبيض من تصوير الشاعرة نفسها، مع ترجمة شاعرية إلى الفرنسية بشكل مواز لكل قصيدة، من طرف الماكر (بالمعنى الأدبي الراقي) عبد الرحمن طنكول صاحب مقدمة الديوان.
والحق أن الشاعرة وداد بنموسى، من خلال هذه النوافذ، فتحت أفقا جديدا للكتابة الشعرية في براري التخوم والمضايق. واللغة في هذا الأفق لا تسمي، أو بالأحرى هي في حاجة ماسة إلى من يسمي معها الأشياء. الصورة الفوتوغرافية مثلا، أو اللغة الأخرى (الفرنسية ها هنا)، كجسر للعبور إلى تخوم الهوية المشتركة، أقصد كونيتها.
ولتكن فاتحة عبورنا إلى فضاءات هذا العمل (وأنا أفضل عبارة «العمل» ها هنا على الديوان وإن كنت سأضطر للتفوه بالتوصيف الأخير لاعتبارات قرائية)، قلت فلتكن الفاتحة ما نبس به العنوان.
«فتحتها عليك»، جملة فعلية تتبطن شيطنة جانوسية (نسبة إلى جانوس إله الأبواب في الأسطورة) يصعب استنطاقها. ومع ذلك سنباغتها بهذه الأسئلة: من تكون الهاء؟ ولمن يوجه الخطاب؟ ولماذا لم يشكل الكاف دون الحروف الأخرى؟
إن الصورة المؤطرة لجملة « فتحتها لك»، وقد وضعت مباشرة تحت العنوان، لا تقول كل شيء. نافذة محاطة بظلام داخلي كثيف، وشبه منفتحة على ضياء براني. يا لها من جانوسية ماكرة. نافذة مواربة، أو إن شئت الدقة، فتحتها صغيرة، حابسة، بذلك، الذات الخفية في أتون هذا الظلام، إذ لا ولن تتحرر منه إلا بانفتاحها على الضياء الخارجي، حيث الحياة فسيحة جدا. ما أجملها من حياة. وبناء على هذا المونتاج الفني للغلاف، يمكن القول إن «إلهاء» ليست سوى النافذة أو الحياة الفسيحة. كلاهما يلج في الآخر. وأما الـ»كاف»، فهو المقصود بالخطاب، منصوبا ومجرورا، وهو القادر وحده ، بإرادته واختياره، على إعادة تسمية الذات من جديد، ووضعها في إقامة ضاجة بالاحتمالات.
هي النوافذ، إذن، تفتح اللغة على مسمياتها، بالقدر الذي تفتح الذات على غيريتها. ليس الآخر هو الجحيم في هذه الكينونة الممكنة، إلا أنه قد يصبح كذلك عندما لا يفتح نافذته على الآخر، فالغير بالنسبة لدولوز، ليس أنا آخر أي مغاير لأناي، وإنما هو كينونة ممكنة مطروحة أمامي، وما علي إلا أن أكتشفه. إن الغير «هو، قبل كل شيء، هذا الوجود لعالم ممكن (…..) إذ يكفي أن يتكلم الشخص ويقول: أنا خائف، لكي يمنح للعالم تحققه الممكن من حيث هو ممكن حتى إن كان كلامه كذبا» (جيل دولوز وفليكس غاتاري- ما الفلسفة- دار النشر مينوينص22-23). ولعل النافذة ، بالنسبة لوداد بنموسى مثلما كان الأمر عند ميلان كونديرا،هي الكوة التي نطل منها على غيرنا، إذ كيف أتعرف على نفسي من خلال الآخر والنوافذ موصدة. يا لها من قسوة:

دفّة النافذة اليمنى تئن
ما تلك اليد الغليظة
التي أوصدتها
جرحت مشاعرها
قبيل مجيء القمر، ص24

إن استراتيجية الكتابة في هذا الديوان، تتماوج بتماوج وضعيات الصور الفوتوغرافية المرافقة للوميض، على متن عبور رائق إلى لغة موليير، بحذق وصنعة كبيرين، تخفيان شاعرية أخرى نافخة في الامتلاء الكينوناتي المضاعف. شاعرية المترجم أقصد. إن المتأمل لهذا العمل المتعدد الأضلاع، سيجد نفسه في مواجهة الكثافة والامتلاء، كاختيار جمالي جديد، ولّد كينونة نصية مضاعفة لاشك. والقراءة، ها هنا، لا تستقيم إلا بتغيير استراتيجيتها، وفق استراتيجية النص.
ولما كانت نوافذ الديوان (كتابة وصورا)، مؤسسة على شعرية المعنى المضاعف، بتعبير بول ريكور، فإن اختراقها لن يتحقق إلا باختراق الخلفية الإبستيمية المؤسِسة لشعرية هذا المنجز، التي بها يتشكل نظام الخطاب الشعري لدى الشاعرة وداد بنموسى.
إنها خلفية معرفية حداثية وما بعدحداثية، لا تؤمن سوى بالذات في انفتاحها على القيم الكونية المشتركة، حتى تلك التي قد تبدو للوهلة الأولى جد هامشية. فالذات، هنا، تبدو أكثر تشظيا وتمزقا، فقط لأن أبوابها/نوافذها موصدة جدا:

لا وطن لك يا نافذتي
مثلما لا حب لي
كلانا نضيع في شتات لا يحتمل
أنت بلا صباح
وأنا بلا عازف. ص56

وإذن هو الشتات والتوتر والانقطاع ينتصب إيذانا بشعرية جديدة كارثية، على مقاس نظرية روني توم. النافذة قسوة وانفراج في الآن ذاته. قسوة حين تُغلق أبوابها وتضيّقُ عليك الخناق، زاجة بك خارج التاريخ والجغرافيا بلا وطن. وانفراج حين تمدّ لك جسر العبور نحو الآخر كفضاء رحب يتجسدن في الخارج.
والملاحظ أن جل نوافذ وداد بنموسى موصدة، وطافحة بالعزلة المطمورة بالنوستالجيا. تقول في إحدى نوستالجياتها:

قديما
كانت النوافذ
تشتكي من جسارات القمر
اليوم
من فرط ضجرها
تشتهي
غمزة
لموعد القمر. ص28

النافذة والشاعرة، في هذا العمل، صنوان. كلاهما يشكوان من تكثّرات أنّاتهما، ونداءاتهما/طموحاتهما:

كأنك تعرفين كيف صعدت
كأنك مرة
وهبتني سكينتك كي
أرتقي
فكيف أسكنتني الآن
مجاهل الظل؟
أين أخفيت عني فراشاتك؟
يا نافذة
طموحها
طموحي. ص16

بهذه الرومانسية القشيبة والجديدة، التي قد أجازف في نعتها بـ»الرومانسية الواقعية»، تؤسس الشاعرة وداد بنموسى لنوافذها شعرية مخصوصة، تجترح من خلالها سؤالا جيدا في الكتابة الحداثية، أعني بهذا، سؤال العمل الشعري الراغب في العبور إلى الكونية حيث يقيم الشعر.
وبالعودة إلى شعرية النوافذ هاته، نلفي الشاعرة تجعل منها، برومانسية جديدة، حجابا ما بين العزلة والحب؛ ما بين الأنا المريضة والآخر المتفلت دوما. فالنافذة شبيهة للشاعرة في العزلة والحنين:

حاورتها وحاورتني
كم بُحْتُ لها
وكم باحتْ
تلك النافذة الموصدة
في الغرفة البعيدة
تشابهنا في الحنين. ص36

يا لها من مصادفة. الذات الشاعرة في مواجهة النافذة. واللغة، كدال أساس في الديوان، في مواجهة دال أساس آخر هو الصورة الفوتوغرافية. صحيح أن الصور الفوتوغرافية في هذه الكبسولة الشعرية، موسومة بالواقعية، إلا أنها في الآن ذاته، مطمورة بعمق رومانسي حالم، ذاك المشار إليه أعلاه. إن الوميض والصور الفوتوغرافية في هذه المجموعة: «لا يربطهما منطق التشخيص والتماثل، بل جدل التماهي والتمويه…الكتابة والتصوير، هاتان الممارستان، كما هما مرتبطان هنا في تقاطع سيميائي متداخل، ليس لهما معنى بالنسبة لوداد بنموسى إلا لكونهما يسمحان به بتألق الذات في علاقتها مع العالم. لا تخضع لحقيقة مطلقة أيا كانت أو لأي تصور دغمائي» ( عبد الرحمان طنكول- المقدمة.ص84-85).
وليس من شك أن التّوعُّر فيما اقترفته الشاعرة وداد بنموسى من مغايرة واختلاف في هذه الإضمامة الباذخة، بالنسبة للقارئ المستقوي بمنطق المعيار والمواضعات، سيكون ملبّدا بالخوف والتوجس لا محالة. الخوف هذا ليس سوى مرض مزمن يسمى عندنا بفوبيا الطارئ الذي كان دائما العلة في فداحة التقليد كعقلية نكوصية لا تطمئن سوى للمتفق عليه بنعرة ارتكاسية، نعرة باطولوجية (عيادية) مصابة بفوبيا المغايرة والاختلاف. علينا أن نتعلم الدروس إذن. وعلينا أن نستفيد من الأخطاء الناجمة عن موضعة الحياة في وعاء الميتافيزيقا. لأن هذه الأخيرة كما يعرفها نيتشه ساخرا، هي: «العلم الذي يبحث في الأخطاء الأساسية للإنسان، كما لو كانت هي الحقائق الأساسية».
أما بعد، إن الشعرية في هذه الأضمومة، هي اختيار صعب، وضعت الشاعرة وداد بنموسى نفسها أمامه. صعوبته راجعة بالأساس إلى كونها تركت للصفحة إمكانية أن تعبّر وتقول. فالدوال في هذه اللحظة الجمالية متعددة. وما اللغة سوى واحدة من هذه الدوال. إن الشعر في هذا العمل الشعري الشائق، هو اجتراح لأفق مغاير، أو بالأحرى تغيير لاستراتيجية الكتابة بانفتاحها على الصورة الفوتوغرافية كشكل تعبيري بصري بحت، من ناحية، وعلى اللغة الأخرى (الفرنسية) باعتبارها محاولة ثانية لتسمية ما قالته الشاعرة بالعربية، من ناحية ثانية. إن خطورة اللغة راجعة بالأساس إلى كونها تسمي الأشياء. ولنا أن نتصور دهشة البداية في هذه اللعبة كاختيار واختبار. ليس من شك أن الاختبار واحد من أهم اشتراطات الحداثة الشعرية. لا يهم نجاحك أو فشلك. فالقيمة هي لدهشة المحاولة فقط، أو كما يقول الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف «فالمهم أن نخلق مناخا». (رهانات الحداثة ص 17)
وبناء على كل ما سلف نستطيع القول إن وداد بنموسى، من خلال عملها هذا، استطاعت أن تهندم عوالم قشيبة في انخطاف الدهشة والرهافة، مستقوية في ذلك، بقلقها الوجودي، وعماها الجمالي (العمى هنا باعتباره اختيارا فنيا/ فلسفيا). لقد غمست لغتها في ماء غير مباح، خالقة شعرية جديدة مائزة، شعرية آتية وذاهبة من وإلى المشترك الإنساني المتمثل في السعادة التي «تندرج في التيار الدافق لمختلف حالات الحياة حتى تلك التي تبدو تائهة وخالية من كل معنى. يكفي فقط أن نحاول القبض عليها وعلى صيرورتها وحركتها». (طنكول المقدمة- ص8)
هكذا هي شعرية وداد بنموسى. شعرية عبور وترحُّل من الذات إلى الآخر، من لغة إلى أخرى، من الكتابة إلى الصورة، من الكلام إلى الضوء والظل، بتوقيع مشترك إيذانا بفلسفة شعرية جديدة، ديدنها الحوار بين الذات والآخر، وبين الشعر وباقي الأشكال التعبيرية الممكنة، في أفق نص كوني محتمل. ولم لا كينونة كونية محتملة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى