جمال أبو حمدان رائد القصّة الأردنية

الجسرة  الثقافية الالكترونية

*فخري صالح

المصدر: الحياة

 

يعدّ جمال أبو حمدان (1944 – 2015) الراحل عنّا قبل أيام قليلة، واحداً من روّاد الحداثة القصصية في الأردن، وفي العالم العربي عموماً. فهو أخلص للنوع القصصي وجرّب في الشكل إلى حد جعل نصّه علامةً أساسية في تطور هذا النوع المظلوم. وقد أصدر أبو حمدان (المولود في عمان والمتوفّى في الولايات المتحدة الأميركية) عدداً من المجموعات القصصية كان أوّلها «أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» (1970)، «مكان أمام البحر» (1993)، «مملكة النمل» (1998)، «أمس الغد» (2010)، إضافة إلى عدد من الروايات، والأعمال المسرحية، والمسلسلات التلفزيونية.

واستطاع أبو حمدان أن يرسخ حضوره على خريطة القصة العربية من خلال مجموعته الأولى «أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» التي نشرت طبعتها الأولى عن منشورات مجلة مواقف في بيروت، ثم من خلال ما تابع نشره من قصص في الصحافة العربية السيّارة. وتقوم قصص أبو حمدان على تغريب الحدث القصصي والشخصيات والحالات التي يصفها، وعلى نزع الإلفة عن عناصر عمله القصصي ودفع القارئ باتجاه إدراك غرابة العالم الذي يصفه، والتعرّف إلى المأزق الذي تحياه شخصياته. إن عالم أبو حمدان هو عالم الشخصيات المنسحبة من سياقها الاجتماعي الضاغط، الباحثة عن خلاص وجودي في الفن أو التأمل أو الانطلاق بعيداً من الوجود الأرضي المُكبِّل الروح النبيلة.

ويمكن القول أن قصص أبو حمدان هي بمثابة تعبير مجازي عن هذه الرغبات، الوسواسية، التي تتسلط على شخصياته وتدفعها إلى الهروب بعيداً من الفساد الذي ينخر عالم البشر ويمزق أواصر العلاقات الإنسانية. ويعمل القاص، للوصول إلى تعبير أمثل عن هذه الرغبات، على كتابة حكايات مجازية (ألليغورية) تضفي عليها لغته الشاعرية، وقدرته على تفجير الطاقات الإيحائية للغة، معاني عميقة تفسر الوجود الإنساني وتكشف عن التصورات الفلسفية التي تغلف عالم أبو حمدان القصصي. كما نعثر في تلك القصص على إعادة رسم شخوص من الحكايات (السندباد البحري، ليلى والذئب، المارد في حكاية «علاء الدين والمصباح السحري»، إلخ) وإلقاء ضوء جديد عليها بتغيير وظائفها وشروطها وملامحها النفسية لتتناسب مع الواقع الراهن الذي تتكلم عنه القصص بصورة مواربة. من هنا، تبدو قصص أبو حمدان قابلة للتأويل المتعدد بسبب غنى دلالاتها ونزوعها الشعري.

في قصة «مملكة النمل» التي يضع لها القاص عنواناً جانبياً يصفها فيه بأنها «سيرة غير ذاتية… وغير مكتملة»، يعثر القارئ على هجاء موارب للتربية الإنسانية والوجود البشري الذي يحاكي عالم النمل بحيث يتحول البشر في النهاية إلى هيئة النمل وسلوكه، ويتحول الآباء إلى قتلة لأبنائهم الذين أُرسِلوا ليتعلموا قيم النمل وعاداته. وما بين مشهد البداية الذي يحرق فيه الابن «كتاب النمل»، ومشهد النهاية الذي يموت فيه الابن – النملة بسلاح الأب، يعثر القارئ على مفارقة التربية ومأسوية التناقض في الفعل الإنساني. إن الابن الصغير يرفض سلوك النمل لأنه يرى فيه ارتهاناً لعبودية أزلية وتكرارية سلوكية معادية للإبداعية الإنسانية والنزوع الفردي الأصيل. لكنه في النهاية يعود من مملكة النمل وقد تحقق من النظام المدهش في عالم النمل. لقد تحول إلى نملة، في الهيئة والسلوك. لكن أهله من البشر لا يتعرفون فيه إلى ابنهم الذي غادرهم إلى مملكة النمل، عقابًا له على جرأته الزائدة عن حدها، فيقتلونه لأنه لم يعد يشبههم.

 

عالم «النمل»

إن «مملكة النمل» هي بمثابة كتابة مواربة لقصة «التحول» لكافكا. لكن جمال أبو حمدان، وهو يدرك انتساب نصه إلى ذلك العالم الكافكاوي الذي ينمسخ فيه الوجود البشري ويفقد شرطه، يخلع على النمل صفات البشر وهيئتهم. لذلك، تبدو الرحلة إلى عالم النمل كأنها رحلة تتم إلى عالم البشر، حيث يشدّد الراوي على علوّ مرتبة العالم الحيواني على عالم البشر الذين يقتل بعضهم بعضاً ويفتقر أكثرهم إلى الحكمة التي تسود عالم النمل وتسيّر حياتهم. لهذا، السبب تمثل قصة «مملكة النمل» نصاً مفتاحياً في عالم جمال أبو حمدان القصصي، بغض النظر عن تاريخ كتابتها المتأخر. إنها تكشف عن جذور عالمه القصصي، عن طريقته في بناء جملته القصصية، عن ميله للاختزال وتركه الفضاء مفتوحاً للتأويل وفهم القارئ، وعن إيمانه بأن أصل فساد الكون قائم في إكراه البشر بعضهم بعضاً على ضرورة التشابه والسلوك المتوارث.

ثيمة القتل، والحرب أو إفناء البشر بعضهم بعضاً التي يتردد صداها في عدد كبير من قصص أبو حمدان، تأخذ منحى مثيراً للدهشة في قصة «ليلى والذئب». في هذه القصة البارعة يعمل أبو حمدان على عكس مجرى الحكاية وتوليد نوع من المحاكاة الساخرة لحكاية ليلى والذئب. فبدلاً من أن يخدع الذئب ليلى، ويذهب إلى بيت الجدة ليأكلها وينام في فراشها ليجيء الحطاب ويقتله وينقذ الجدة من أحشائه، يبدي الذئب عدم رغبته في القيام بدوره المرسوم في الحكاية ويستعطف ليلى لكي تعفيه من ذلك لأن جراءه الصغار المولودة حديثاً تنتظره. لكن ليلى التي تبدي في الحقيقة تعاطفها مع الذئب، ترفض طلبه خوفاً من أن تخيب توقعات قراء الحكاية من الكبار والصغار. إن القاص يحاول، بروح فكهة عابثة، قطع مسار الحكاية وعدم الوصول بها إلى مآلها الأخير. لكن قوة الحكاية، وطابعها الإكراهي كذلك، لا تُبلغ الكاتب أو ليلى مرادهما فيضطر الذئب وليلى إلى الانصياع لخيوط الحكاية التي تنسج نفسها بنفسها للوصول إلى النهاية المأمولة من جانب القراء.

في «ليلى والذئب» يقوم أبو حمدان بتقديم نموذج مدهش من إعادة كتابة الحكايات والأساطير المتداولة، حيث يأخذ جانب الذئب الذي تجبره الحكاية على القتل، ومن ثمّ الذهاب في درب مصيره المرسوم في كلمات الحكاية. كأن القاص يريد من هذه المحاولة، أي من تغيير مسار الحكاية، أن يخلخل قناعة قرّائه بالحكايات والأساطير المتداولة ويعيد توليفها وتوجيه قارئه إلى الزوايا المعتمة فيها، أي تلك الزوايا التي قد يؤدي النظر والتحديق فيها إلى التيقن من أن الحقيقة تقبع في مكان آخر، وأن القاتل ليس في الحقيقة إلا ضحية الحكاية المتداولة التي رسختها العادة وأجراها الوهم مجرى الحقيقة الثابتة التي لا مراء فيها.

 

الغياب والحلم

في خط آخر من قصص جمال أبو حمدان، يركز فيها على ثيمة الموت، يتأمل الراوي معنى الموت والحياة في غياب الشريك وعودته في الحلم الذي يبدو مثل لحظة غسقية تعيد تخليق ما مضى وتهيئ للحالم أن الحبيب الغائب ماثلٌ أمام ناظريه. هذا ما يصادفه القارئ في قصة «العمر» التي يصبح فيها عمر الرجل الحي أكبر من حبيبته الميتة، فها هو قد بلغ الأربعين وهي لن تبلغها أبداً لأن الموت غيبّها ومكّنه من أن يصبح أكبر منها عمراً فيما كانت هي أكبر منه في الحياة. إنها مفارقة تعذّب الراوي الذي يرى بعين خياله ملامح المرأة الميتة التي يشتاق إلى حضورها في تلك اللحظة التي بدأ يحس فيها بروحه الهرمة.

في قصة أخرى بعنوان «عودة إلى مسقط الرأس» يكتشف الميت لدى نزوله إلى «فسحة القبر» أنه يرتد طفلاً في القبر بدل أن تتطابق رحلة الذهاب مع رحلة الإياب، في إشارة غامضة إلى العبث الكامن في الرحلتين. وهو ما نجده في قصتين أخريين يكشف فيهما الكاتب عن حضوره ككاتب معلناً أن الشخصيات الحية التي أبدعها في قصصه هي التي دفعته إلى الموت.

في «قبر مفروش للإيجار» ثمة حكاية مجازية عن كاتب يبحث عن قبر مفروش يسكنه، ويُعقد الحوار بين شخصية الكاتب وحارس العمارة ليكتشف القارئ أن القبر المفروش ليس سوى غرفة مكشوفة لبقية سكان العمارة من الأحياء. وعندما يأتي سكان العمارة لتسلم مفاتيحهم يتعرّف فيهم الكاتب إلى شخصياته القصصية التي قام بتخليقها، لكن تلك الشخصيات الحية الساعية في الأرض لا تتعرف إلى الكاتب الذي كان سبباً في وجودها فيضطر الكاتب إلى الإيواء إلى قبره ليكتشف، بعد أن يتمّ كتابة قصته «موت الرجل الميت» على جدران القبر، أن القبر لا جدران له ولا نافذة ولا باب. إنه قبر حقيقي وليس قبراً مجازياً كما حاولت القصة أن توحي لنا في صفحاتها الأولى.

ثمّة خط آخر، متصل بثيمة الموت، في قصص جمال أبو حمدان، حيث يقوم القاص بإعادة رسم مواقف بعض الأشخاص التاريخيين والشخوص الطالعين من حكايات ألف ليلة وليلة، إذ يفقد أولئك الأشخاص، وتلك الشخصيات، حماستهم ويبوؤون بالخذلان والتخلي عن الأهداف التي رسموها لأنفسهم في التاريخ والحكايات. إن سبارتاكوس، في قصة في العنوان نفسه، يتخلى عن دوره في إنقاذ زملائه العبيد فيما يأنف الأسد في حفرة الأسود من أكله. أما أبو ذر الغفاري، في قصة بالاسم نفسه، فيفشل في تثوير الجياع وحضّهم على إشهار سيوف لا يملكونها.

في قصة «أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» يرصد الكاتب حلم يوسف الذاهب للدراسة في مدينة القاهرة، وتتولّد الحكايات المتواشجة في هذه القصة من تداعيات الاسم والمصادفة التي تجمعه بزليخة زوجة الرجل الذي يسكن يوسف في إحدى غرف بيته، ثم يأخذه حلمه إلى الصحراء التي يظهر فيها غزالان، ثم يظهر الثالث، ليتبدد بعض الحزن التاريخي الذي ينزّ من مسام جسد يوسف. لكن اللافت في «أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» ليس الحكاية، بل الاختزال والكثافة الشديدة في الوصف والحوار (ما يقرّب عمل جمال أبو حمدان القصصي من الشعر)، وكذلك سلاسة الانتقال من مشهد العلاقة بين زليخة ويوسف إلى الحلم بصحراء مترامية الأطراف تهرب إليها الشخصية من أحزانها متلهّية، وسط الحلم، بمشهد البندقية وظلها الذي يقصر ويطول ويختفي في رحلةٍ غامضةِ الملامح والهدف تتجه من مصر إلى الشام.

إن «أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» تعطي القارئ فكرة واضحة عن شكل الكتابة القصصية لدى جمال أبو حمدان الذي يقدم في مجموعته الأولى، مثالاً ناضجاً متميزاً للكتابة القصصية. ويمكن أن نتحقق في هذه المجموعة من الخط البياني الصاعد لرحلة القاص في عالم الكتابة، حيث يتكامل عالمه وتتناسل قصصه من ثيمات أساسية يدور حولها عمله القصصي منذ منتصف الستينات وحتى قصصه الأخيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى