عماد أبو صالح.. طريد العالم، لص العالم

الجسرة الثقافية الالكترونية
*وئام يوسف
يطرحُ الشاعر عماد أبو صالح في ديوانه الجديد «كانَ نائماً حين قامتِ الثورة» تساؤلاتٍ وجوديةً لمفاهيمَ كونيةٍ كبرى ضفرها بلغةٍ تمردتْ على خامة الشعر، فتراه يذمّ الحرية والثورة والأشجار، في حين يمدحُ الظلام والخطأ. تساؤلاتٌ لا إجابة لها، فلا أحد يملك يقينَ الإجابة كما يقول. حتى الشاعر ذاته لم يفلت من ذم أبو صالح «احذروه.. يتخفى أحيانا في الحلوى» قائلا للشعراء الجدد «أمامكم فرصة للهرب.. سيحولكم إلى كلاب.. تلهثون ورء خطواته.. اكتبوا رواية».
عماد أبو صالح ابن مدينة المنصورة التي أفرغت طيب ثراها وخصوبة نيلها في شعره، ففاض خلال 10 سنوات بثمانية دوواين، آخرها «كان نائماً حين قامت الثورة» الذي كتبه بلغة نثرية عفوية تضعه في مرمى الخطر أحياناً باستعاراتٍ جسدت رؤية عدمية جعلته «لا يحتاج ـ أحتاج – أشعاراً ولا لوحات ولا كتب فلسفة ولا تاريخ.. أريد أن أبقى خفياً خاوياً.. أو على الأصح.. جاهلاً.. أكنسُ روحي».
«كانَ نائماً حين قامت الثورة» عنوان يشي بالتمرد الذي يفيض به الديوان، ربما لم يقصد ثورة بعينها، بل هي الثورة بمفهومها الأشمل.. لأن الثورة في المخيلة الإنسانية هي قمة ما يطمح إليه البشر والشعراء باعتبارها النقطة الأعلى والأعمق لتغير الحياة، فهي حلم الخلاص وحلم التغيير كما يقول الشاعر.
الشاعر كما يرى أبو صالح لا يقترن بالثورة، وليس عبداً لها، فالشاعر الحقيقي هو الذي يحلم ويبشر بها، وعندما تتحقق يكون على مسافة منها، «كانَ نائماً حين قامتِ الثورة.. لم يغادرْ سريره.. رغمَ أنّه سمع الهتافاتِ الهادرةَ.. من شباك غرفته.. نامَ بعمق.. كان وحيداً في البيت.. في الحيّ كله.. لا ضجيجَ بائعين.. لا صراخَ أطفال.. ولا نباحَ كلاب.. وحيد.. وحر.. بينما الثوار هناك.. يشيِّعون جنازة الحرية».
ذم الثورة
«ذم الثورة» واحدة من قصائد الديوان، وليست أولى قصائد أبوصالح حول الثورة، «ثورة» قصيدة سابقة تضمنها ديوان «أنا خائف» الصادر سنة 1998.
سيرجي يسينين وفلاديمير مايكوفسكي.. شاعران روسيان عاصرا الثورة البلشفية 1917، ولكل منهما موقف مغاير للآخر اتجاه الثورة، يسينين الصعلوك المتمرد على السلطة البلشفية.. الفلاح الذي رأى أن الثورة دمرت حياته و «بدلت الأحصنة الحية بالأحصنة الحديدية» فما كان له سوى الانتحار. مايكوفسكي «شاعر الثورة» لامه واعتبر انتحاره خيانة للشيوعية، ورد عليه بقصيدة رأى فيها أن «الموت ليس صعباً.. ابتكار الحياة هو الأصعب». في حين أن الثاني لاقى نفس المصير برصاصة انتحارية أطلقها في صدره.
عماد أبو صالح بدوره لام الاثنين قائلاً في قصيدة عنوانها «يسينين»: «أنا مشيتُ في الجنازتين.. استطعتُ أنْ أشقَّ زحامَ المشيّعيِن.. وأضعَ وردةً على تابوتِ كلّ منهما.. إذْ كنتُ لا أزالُ شاباً.. بكامل صحتي.. في تلكَ الأيام.. كلّما أتذكرهما أقول لنفسي.. الآن يرقد بسلامٍ تحتَ التراب.. شجرةٌ ريفية.. وجرّافةٌ ثورية».
الرؤية في قصائد أبو صالح مرهقة ولاتخلو من التعقيد، كيف لا وهو الذي ذم الأشجار وجعلها مشاريع مشانق «كلّ شجرة شجار.. لا تفلحُ الطيور.. التي تعزفُ لها كلّ صباح.. في مصالحة أغصانها مع نفسها.. كلّ شجرةٍ معركة، حربٌ خضراء.. ماهي العصا؟.. غصنُ شجرة.. ما طاولةُ التعذيب؟.. جذعُ شجرة.. ما الصليب؟.. ما الباب الذي يحجبُ الهواء، ما هو النعش؟.. دلّوني على شجرة، ليس فيها فرع جاهز لتعليق حبل.. كل شجرة، إغراء بمشنقة».
ينهي صاحب «قبور واسعة» ديوانه من حيث بدأ.. التمرد والصراع الأزلي مع الرداءة، والذي وصل نسغ النزعة الإنسانية بين قابيل وهابيل، «لا أحلم بأن يشرب الذئبُ مع الخروف من وعاء واحد.. هذا حلم كبير.. لا أحلمُ أنْ يتوقفَ الناس عن متعة القتل.. إنّ هذا مستحيل.. كلُّ حلمي أنْ يظلّ القاتل قاتلاً.. والقتيلُ قتيلاً.. دون أنْ يختلطَ عليّ اليدُ التي غرزت السكين والقلب الذي تلقى الطعنات..».
أبو صالح يرى أن الشاعر طريد العالم، ولص العالم الذي يصطاد المعنى، ويوجه بندقيته ضد جنرالات وطغاة العالم، وهو بكل هذه المعاني يجعل هذه الرداءة بلا معنى، فثمة حرب خفية ومستعرة بينه وبين رداءة العالم، لأنه بتكريسه المعنى يجعل كل هذه الأكاذيب بلا معنى.. في حين يستمر هو متسلحاً بالحلم «أحلم بالحياة حلبة مصارعة، بالعدل، بالخطأ والندم، لامنتصر فيها ولامهزوم».
المصدر: السفير