كاتبة تونسية تؤكد: تجاوزنا نبرة السخط على الرجل والبكائيات

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

ناظم الهاني

 

لغتها شعرية ولكن خطوط السرد متماسكة في قصصها، وتحديدا في نصوص “اوشام سرية” الصادرة حديثا عن دار الفكر للنشر والاشهار بتونس.

 

ندخل عبر قصصها الى الواقع التونسي بعد الثورة وما عرفه هذا الواقع من رجات. الشخصيات كما الاحداث تبدو غريبة حيث يتلازم في كتاباتها الرمزي بالغرائبي بالواقعي ولكنها تشبهنا وتذكرنا بشخصياتنا في حالاتها المختلفة. الخيال والاساطير نسيج له دوره في حياكة نصوصها من ارملة العنكبوت الى عرس الذيب الى عتبات الذاكرة وعتبات المدينة وظلال القرية. اسئلة كثيرة راودتنا ونحن نقرأ نصوصها وهي مناسبة لنلقي الضوء على مشاغلها الادبية والنقدية.

 

تقول الكاتبة التونسية هيام الفرشيشي عن الكتابة إنها هي لحظة الاكتشاف او الكشف ان الاحساس بالجمال الغريزي يكتنفني وان الجمال عالم من البهاء المغلف بالغموض، ولكنني لا اراه تماما لانه يتوارى وراء ستائر الواقع وحجب الذاكرة ولاني اشعر انني لم اغادر غرفتي بعد نحو منابع الجمال وصوره ومشاهده. فالجمال كامن في القرية: في تدفق ماء النهر، في الضيعة، في الجبل، في المدينة في موسيقى حركتني، في الكتب، في لوحة المغيب، في الوان قوس قزح المرسوم في الفضاء. في مشاهد حياتية في البيئات التي تنقلت فيها واليها، في صور الاشجار وهي تلاحقني وانا اطل عليها من بلور السيارة الخلفي, في اكتشاف المدينة فجرا او اخر الليل حين نعود من دار جدي بالعاصمة الى الضاحية عبر سيارة والدي.

 

الكتابة ان انتشي بلحظة ولادة الحياة صباحا حين تطل الشمس وتتسلل الى الغرفة عبر الستائر تصاحبها حركة اليقظة وصوت فيروز ينبعث من المذياع او حين تتلون الشمس في دار جدي بالعاصمة من خلال البلور الملون لباب الغرفة الكبيرة ويمر بائع الحلويات يبعث فينا شهية الحياة، في القرية حين تستيقظ جدتي باكرا وتعجن الخبز وتخمره ثم ابقى بجانبها وهي تحلب البقرة وتعد خبز الطابونة او خبز الغناي وارمق الشمس وابحث عن السر في ذلك.

 

الكتابة هي لعب لان اللعب يكون خارج الزمن لا داخله ولانه يبهج واكون فيه مع ذاتي مع حركاتي. الكتابة هي ما بقي من الرحلات المبرمجة في المصائف الى المواقع الطبيعية والاثرية الى البحر الى اغاني الطفولة.

 

وتضيف: لو لخصت اقول هي في الاكتشاف، والاحساس بالجمال الغريزي وحالات اليقظة والصور المصاحبة لها. وحين ألوذ بالقلم فكأنني احاول ان استرجع رغبتي في معانفة الجمال لان الاسترجاع هو الذي يمنحني الشعور بالسعادة والبهجة وهنا استرجع قول غوتة: ليتني اقول للحظة ابقي معي/ بل اللحظة قد تعود وقد ترسل ضوءها حين يعزف القلم على اوتارها فتنبعث من موسيقى العاطفة والروح والذاكرة.

 

وتشير الفرشيشي إلى أن الابداع يعبر عن ذاته، عن ذات تتحسس منبع الجمال والحياة ولكنه رسالة انسانية ايضا بمعنى ان القلم سيرى ثنائيات الجمال والقبح، الحياة والموت، الاحساس بالجدوى، والشعور بالغثيان، القلم لن يرى الجمال المطلق في المجتمع وفي الكون والانسان. فالمجتمع اكتنفه التلوث وفساد القيم والطبيعة قد تغضب وقد تثور وقد تكشف عن وجهها البشع والنهر ليس مبتسما على الدوام فقد يفيض ويتلف الزرع، والغربان قد تأتي من وراء الجبل وتنقض على الفراخ، والمدينة بكل ما فيها من مظاهر فن وروحانيات صوفية، فأزقتها واركانها ومقصوراتها مظلمة وخانقة. فالجمال نسبي ولكن المبدع هو جزء من مجتمعه وبيئته، فهل ينخرط في بعض مظاهر فساد مجتمعه وقبحه، ام يستشعر بان الحياة صراع كما الكتابة؟ فلكي يتحول الفن الى رسالة انسانية فهو لا يكشف فقط عن الواقع بل ما يسمو عن الواقع وما يرتفع به لان غاية الفنان الصدق وبعث الجمال.

 

هيام الفرشيشي لم تشارك في اي مسابقة ترصد لها جوائز ادبية ولكن الجوائز التي حصلتْ عليها تمنح من طرف لجان تسند جوائز بطريقة الية, مثل جائزة الكريديف اي مركز الدراسات والبحوث والتوثيق حول المرأة هي تسند الجوائز سنويا في مجالات مختلفة مثل الابداع والبحث العلمي.

 

وتقول: عند صدور مجموعتي القصصية الاولى “المشهد والظل” اتصلوا بي العديد من المرات لاعطيهم نسخا من الكتاب كي يدخل المسابقة ولم اكن متحمسة، لم اكن مقتنعة بان الجوائز تمنح دون ولاءات معينة، ولكن بعد الحاح منهم واتصالات عديدة اعطيتهم نسخا من الكتاب الصادر اواخر 2010, وبعد الثورة مباشرة اي مارس 2011 اتصلوا بي ليعلموني بان كتابي من بين الكتب المتوجة بجائزة الكريديف. بالنسبة لجائزة المثقف اي درع المثقف للثقافة والفنون (المثقف مؤسسة ثقافية مستقلة في سيدناي باوستراليا) فقد استندت الى تقرير لجانها حول أعمالي المنشورة في اليوم العالمي للمراة في 2012 ولم اكن وحدي المتوجة بالجائزة بل مع مثقفات ومبدعات عربيات.

 

وعن أعمالها الإبداعية بين القصة القصيرة والرواية تقول الكاتبة التونسية: لدي رواية مكتملة بين ادراجي ولكنني ارتايت ن اكرس نفسي كقاصة، سيما وان القصة تعاني من امرين، اولهما عزوف البعض عنها والرحيل الى الرواية التي تمكنهم من الحرية الفنية وتوظيف كل الفنون الاخرى والارتكاز على كل المراجع وما عرفته من تحديث وتجارب، الامر الثاني هو اقتحام بعض الشعراء لعالم القصة من الباب المفتوح بدون ضوابط عبر القصة القصيرة جدا التي تحاكي الومضة الشعرية دون ان تسرد حكاية، بل هي مشهد مقتضب قد يحتمل التأويل والتشفير ولكن تغيب عنه الفضاءات والشخصيات، وتتناول الحدث على عجل وتغادر بينما واقعنا معتم ومعقد وهستيري ولا يجب ان نمر عليه مرور الكرام, القصة القصيرة مشغلي لانني اتناول فيها شخصيات اشكالية تبدع في رسم البيئة او الاطار الطبيعي، واعرض الحدث بطريقة فنية تعتمد على التصعيد الدرامي، وابني المشاهد.

 

وتشير إلى مجموعتها القصصية الجديدة “اوشام سرية” فتقول: اوشام سرية اي اوشام ذاتية لا يعيشها الا صاحبها كالاحلام وهي التي تحمل رموزه واشكاله متى امتلك خاصية رسم الخطوط والاشكال والالوان وتمكن من اللغة, والاوشام التي تعبر عن الانتماء الى المجموعة رغم ما يصاحبها من الم عند رسمها فهي تغذي الانتماء الى الامكنة التي عشنا فيها لانها تبقى امكنة امومية حاضنة لمخاوفنا وهي بيت الخيال والاشياء كما قال باشلار، لذلك عدت الى البيوت والدور القديمة التي تعلقنا بها منذ الطفولة الاولى، لا البيوت فقط بل الموج والصخرة والجبل والضيعة والكوخ والنخلة والاعشاش والطيور والفراخ كلها تجعل الاوشام تعبر عن امننا ولكن حين تفرغ الدور من اصحابها ويقع العبث بالاعشاش، عندها يصبح العالم متوترا عبثيا ناقصا، الاوشام راكنة في الادراج والخزائن والزوايا تسبر الخيال وتنسجه في هدوء وتأن.

 

إن في “اوشام سرية”، عودة الى الذاكرة، وعن تلك العودة تقول الفرشيشي: العودة الى الذاكرة عودة الى الاصول الشفوية للقصة عن طريق الحكايات والخرافات والاساطير، عودة الى الجدة، الى عجائز القرية وهن يروين خطابا سرديا متماسكا، فحكايات الجدة المشحونة بالخوارق والاحداث والمغامرات العجيبة لا تنتهي بشكل مأساوي او درامي او تراجيدي بل يحرك الفعل الحب من اجل الاستحواذ على قلب الحبيبة وابراز ما يتحلى به البطل من شجاعة وبطولة, وهي حكايات وخرافات تعود بي الى مرحلة الطفولة لانها تروى للاطفال وعلى مسامعهم وعدت الى اسطورة العنكبوت وهي اسطورة يونانية تسرد مسخ الهة الفنون وتحويلها الى عنكبوت معلقة بخيط.

 

وفي العودة الى الاصول الشفوية للقصة عودة الى كل ما هو عجائبي غريب حلمي والى تناول الاحداث بالصور والرمز تجنبا للتقريرية الجافة.

 

العودة الى الذاكرة سببها ايضا انتعاش الفكر الخرافي الغيبي والشعوذات في فترة ما بعد الثورة واختلاط الحقائق بالاوهام, اذ لا يمكن الحديث عن اوهام الحاضر دون الرجوع الى رواسبها في الذاكرة واللاشعور، فحين اتجول بالذاكرة في القرية او المدينة تنبلج الكثير من الخرافات والحكايات التي حيكت حول بعض الامكنة تعكس هذه التخيلات العجيبة هذا الفكر الخرافي.

 

الذاكرة هي مرجع للثقافة والفنون والمكتسبات الانسانية في فترة هستيرية اراد فيها البعض مسح الذاكرة الثقافية والانطلاق من نقطة الصفر، وهذا لا يستقيم في حياة الشعوب وفي الوعي الثقافي. عدت الى ذاكرتي الخاصة، للفنون والثقافة في منزل الجد بالمدينة العتيقة، منزل مصمم على الطراز العثماني، وما يحويه من آلات موسيقية ولوحات تشكيلية ومكتبة بها نفائس الكتب. وقدرة الطب الرعواني في القرية على مقاومة المرض وايجاد علاج للعقم.

 

ومن يتأمل قصص هيام الفرشيشي يجد تلازم البعد الرمزي والواقعي والغرائبي، وتوضح ذلك قائلة: تلازم البعد الواقعي والرمزي والغرائبي لان القصص تتناول الواقع الاني بحراكه وانحرافاته وشروخه. ولكن كتابة القصة الواقعية المطمئنة لم تعد تغري الكتاب عبر انعكاس الواقع من خلال صور حياتية مبسطة وشخصيات نمطية وحبكة ولغة نثرية جافة. وانما لا بد من تحويل الواقع والنأي عنه, فالنص يتحدث عن الواقع ولكنه عمل فني لا بد يتخذ بينه وبين الواقع مسافة, لا بد من فتح آفاق دلالية للنص عبر اللغة المشحونة بالرمز والصورة, لا بد من تناول القضايا عبر العرض الفني، واعتماد تقنيات حديثة مثل أسطرة الشخصيات والمزج بين الماضي والحاضر والخيال والحقيقة, الادب الواقعي تيار وقع تجاوزه وعرف الكثير من التجديد، الغرائبية كلمة لا وجود لها في معجم اللغة العربية وهي تحاكي دهشة الطفل الطفولية حسب باشلار وهذا موجود في نصوصي اذ عدت الى ذاكرة الطفولة. الاحداث غريبة عن عالم القارئ اي يدخل الى القصة يدخل الى عالم غير متوقع, عالم جديد، تفسيرات ميتافيزيقية للوجود، تداخل الخيال مع الواقع والوعي مع اللاوعي والعقلاني مع اللاعقلاني، اذ نحتاج الى الرمز لتصوير الافكار والمشاعر والتعبير غير المباشر عن الكامن في الروح والنفس.

 

وتضيف: الإنسان يقف دائما على حافة الهاوية والانسان المسلم المؤمن بالقضاء والقدر يدرك ان الموت قد يترصده فجاة وان موته مؤجل وانه مهدد احيانا في وجوده. والانسان العربي يعيش مأساة الوجود واللاوجود, والانسان العبثي في مجتمعاتنا العربية او الغربية المهموم المتأزم فكريا وحضاريا الباحث عن معنى لوجوده يعيش الموت الرمزي.

 

اكتشفت الموت وانا طفلة من خلال موت جدتي ولم اكن اعي ما سر البكاء والعويل ولماذا تنام جدتي ولا تستيقظ ثم صار الموت يتمثل في الفراغ الذي تركته بين جنبات الدار الكبيرة. وحين توفي عمي وهو شاب عاينت ان النساء يبكين بشكل جماعي وكانهن يغنين، واكتشفت ان غيابه ترك فراغا في الدار، فجاة يغير الموت ملامح وجهه حين تذهب جدتي للحج ولا تعود حيث غيبها الموت هناك، وحين تفرغ الديار من الاجداد، من العم، تتساءل عن مصيرك انت.

 

الموت سؤال وجودي, حتى الدول العربية مهددة في وجودها، ولكن الصراع قد يمدد الحياة, الانسان لا يجب ن يستسلم للموت او الهزيمة وما الغاية من العلم والطب. ما الغاية من الفكر؟ ما الغاية من الفن ان لم يبعث الحياة في النفوس المستكينة؟

 

وتفسر هيام الفرشيشي وجود الخيال في حياة الإنسان قائلة: الخيال حافز عند المبدع يحفز على التصور وهو القوة التي تيسر التعبير عن الافكار ولكن عن طريق الرمز او بطريقة غير مباشرة، والخيال مرتبط بالادراك عند الرومانسيين لانه يحاكي العالم المثالي ويجسد الحقيقة الاسمى, والخيال مهم في التحرر من الواقع والتوغل في عالم الميتافيزيقيا عالم لا يدركه العقل مثل عالم الحياة والموت، الحياة الباطنية الكامنة لان هناك من يرى اننا نعيش حياة اشبه بموت تتحكم فيها الغريزة التي تغذي الحروب والصراعات وسفك الدماء، والخيال يتغلب على الموت الذي يصيب النفس فتصاب بالسادية او المازوشية لانه يحط بنا في عالم مختلف لا تتحكم فيه الغريزة ولا يلاحقه الموت.

 

وتضيف: الخيال يذكرنا بان الانسان سقط من الجنة الى ارض الحروب والجريمة وان الجنة لن ندخلها ثانية الا حين يكتمل الانسان فكريا وينضج نفسيا ويتحرر من غرائزه، هدا غير ممكن في واقع الانسان الملوث ولكن الخيال ينزع الى النظرية الاسمى للفن ويعدل اوتار الابداع.

 

وعن علاقة النقد بأعمالها الإبداعية تقول الكاتبة التونسية: علاقتي بالنقد علاقة ساحرة وحميمية لانني اقوم بالنقد الذاتي اولا ولانني اجد في النقد الفني والادبي ومدارسه متعة خاصة، ولان النقد ينفتح على العلوم الانسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والفلسفة والتاريخ والتصوف وينفتح على المدارس النقدية كالشكلانية والبنيوية والتفكيكية، ولان النقد عبارة عن مجموعة من الادوات والمفاتيح التي تجعلنا نتوغل في النصوص وهو الذي يضيء المناطق المعتمة في النصوص، من هذا المنطلق كتبت العديد من المقالات النقدية في الصحافة الثقافية وولدت العديد من الاسئلة عبر سلسلة من الحوارات مع جامعيين وادباء وشعراء من تونس والعالم العربي وغير العربي ايضا.

 

علاقة المرأة والكتابة

 

وبوصفها امرأة تتساءل هيام الفرشيشي: هل انا مطالبة بان اعالج قضايا المرأة؟ هل انا مطالبة ان اتحدث عن الانوثة الجريحة؟ عن مجتمع ذكوري؟ عن العلاقة العدائية بين المرأة والرجل؟

 

وتؤكد: ليست لي مشكلة مع الرجل. ولن ادافع عن الحركات النسوية التي تحول المرأة الى سلعة تحت مسمى الحرية فهي حركة متطرفة، ولن انقد الرجل لانه اجبر المرأة على ان تتحول الى كائن هلامي يطل من وراء النقاب فهي المسؤولة عن عبوديتها. المراة تحميها التشريعات القانونية تحظى بتكافؤ الفرص في التعليم والعمل والتنقل والمشاركة في الحياة السياسية وكل الحقول، لم تعد المرأة تتأثر بالنظرة الدونية فقد تجاوزنا هذه المرحلة فهي موجودة في كل مكان تحتج وتدافع عن حقها وتعلي الصوت.

 

إن الكاتبة التونسية تبحث عن المرأة الصلبة القوية التي تصارع الحياة، لان المرأة هي التي تحدد مكانتها في المجتمع، وتجاوزنا نبرة السخط على الرجل والبكائيات.

المصدر: ميدل ايست اون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى