قراءة في “عالم صوفي” للنرويجي جوستاين غاردر

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص-
نوال القصار
لم أعتقد لوهلة أن الكتاب الذي بدأت قرأته قبل شهرين تقريباً سيأخذ مني كل هذا الوقت. في العادة أقرأ كتابين أو ثلاثة كل شهر،واحد أو اثنين باللغة العربية وكتاب واحد فقط باللغة الإنجليزية، حسب حجم الكتاب وشدة تعقيده والحاجة إلى التركيز على ما مضمونه، فبعض الكتب لا تأخذ من وقتك يوم أو يومين وأنت تقلب صحفاتها مروراً على زبدة محتوياتها فقط.
كتاب “عالم صوفي، Sophie’s World” للكتاب النرويجي Jostein Gaarder قرأته باللغة الإنجليزي رغم أنه مترجم إلى اللغة العربية لأنه توفر لي مجاناً. وتُرجمت رواية جوستين غاردر “عالم صوفي” إلى 42 لغة حول العالم وكان على لائحة الكتب الأكثر مبيعاً في العديد منها.
يقع الكتاب في حوالي 420 صفحة من القطع المتوسط. ولن أكتب كثيراً حول روعة الكتاب ومتعة قراءته رغم ثراء المعلومات الفلسفية الصعبة التي يحتويها، وإنما عن الأفكار الفسلفية والسياسية والدينية التي يشير إليها ويناقشها، والتي تجعل المرء يقف عندها ويتساءل خلالها عن معنى الحياة، والكون، والوجود، والعلاقات الإنسانية، والعقائد الدينية وغيرها الكثير من الأفكار التي تجعلك حينما تضع رأسك على الوسادة وتوشك أن تدخل عالم الأحلام، تستيقظ منتهباً وتطرح على نفسك الأسئلة ذاتها التي طرحها “الأستاذ الفيلسوف في الرواية ، ألبرتو نوكس،على صوفي ذات الأربعة عشرة عاماً وهي تستعد للاحتفال بعيد ميلادها الخامس عشر.
“عند نقطة معينة، لا بد أن شيئاً ما قد انبثق من لا شيء”
تبدأ الأسئلة تحاصرك كقارئ حين تتلقى صوفي رسالتين مجهولتين الأولى تتضمن سؤالاً بريئاً مفاده: “من أنت؟”، والأخر يقول: “من أين أتى العالم”. وببراءة طفلة لم تحتفل بعد بعيد ميلادها الخامس عشر تجيب صوفي على السؤال الأول بذكر اسمها الأول واسم عائلتها، وعلى السؤال الثاني تجيب ببساطة: “لا أعرف”.
اتضح للفتاة أن هذين السؤالين هما مقدمة لدروس مطولة في الفلسفة تبدأ بالفقرة التالية:
“إن أفضل طريقة لمعرفة الفلسفة هي أن تطرح أسئلة فلسفية: كيف خُلق العالم؟ هل هناك إرادة أو معنى لكل ما يجري؟ هل هناك حياة بعد الموت؟ كيف يمكننا الإجابة عن كل تلك الأسئلة؟ والأهم من هذا كله كيف يجب أن نعيش”.
يبدأ الكاتب جوستين غاردر رحلته في عالم الفلسفة على لسان معلم الفلسفة في الرواية ألبرتو الذي يأخذ تلميذته صوفي إلى رحلة عبر التاريخ من النقطة التي انبثقت منها الأساطير الإغريقية ثم تطورت وتناقلتها الأجيال، إلى أن وثقها هوميروس وهيسود كتابة في حوالي 700 قبل الميلاد، ففتحت هذه الكتابة الطريق أمام مناقشتها.
وبشكل سلس ومبسط يعرج الكاتب – المعلم الفيلسوف- على مراحل تطور الفلسفة الإغريقية مروراً بجميع الأسماء، تلك غير المعروفة لقلة تداولها في الكتب التي يقرأها معظم الناس، والأخرى المعروفة التي اشتهرت مثل سقراط وأفلاطون وغيرهم من الأسماء التي تذكر في المراجع الأكاديمية والقراءات اليومية، دون أن يغفل الكاتب في أن يركز على مدينة أثينا، مركز الجدل والنقاشات الفلسفية الدائرة في ذلك الوقت.
إذا كنت أنت كقارئ يستمتع بالقراءة أولاً، وفي استيعاب زخم ثري من القراءات الفلسفية ثانباَ فسوف تجد الكتاب ممتعاً للغاية رغم صعوبته. وفي ذات الوقت، تجعلك الأسئلة التي يطرحها معلم الفلسفة على تلميذته أن تعيد طرحها على نفسك، وتناقشها، وتتفق معها، ثم تنفيها، ثم تعود لتتفق معها في فصول أخرى من الكتاب حين تجد لها تفسيرات منطقية: ببساطة تحفز تفكيرك بغض النظر عن وجهة نظرك حيالها.
وجنباً إلى جنب مع الفلسفة، يتناول الكاتب نظريات علمية، وسياسية، واجتماعية، وكونية، وإنسانية ودينية وغيرها الكثير، مثل نظرية الذرة التي صاغها العالم ليوكيبوس وطورها يموقريطوس، أو ديمقراط والذي فسر عملية الكون والفساد تبعاً لنظريته الذرية، وصولاً إلى أينشتاين.
ربما أن الفصل الذي يناقش الأفكار من أكثر الفصول استفزازاً لعقل القارئ حين يقول الكاتب أن لا شيء يكون راسخاً في الوعي إذا لم نختبره بحواسنا انطلاقاً من أسئلة طرحها معلم الفلسفة على تلميذته ومنها سؤال يقول: من جاء أولاً الدجاجة أم فكرة الدجاجة؟ وهل نحن ولدنا مع أفكارنا الفطرية؟ هذا يقود إلى سؤال آخر هل وجد الشيء أولاً أم فكرته؟ ناهيك عن فكرة السبب والسببية، أن ما يحدث حولنا في الطبيعة وفي حياتنا لا بد أن ورائه سبب ما.
وعبر كل هذا الشرح الفلسفي، يناقش الكاتب في “عالم صوفي” كذلك فكرة الأخلاق، والسياسية، والأديان، ووجهات النظر عبر التاريخ حول المرأة ودورها في المجتمع، مروراً بالعصور الوسطى، ثم عصر النهضة والثورة الفرنسية، إلى الفترة الباروكية وشكسبير في القرن السابع عشر، ثم يشير إلى عدد آخر من الفلسفات التي سادت بعد تلك الفترة ومنها الحقبة التي عاش خلالها ديكارت وغيره وصولاً إلى عصر التنوير، أو كما تقول العبارة أسفل عنوان الفصل الذي يتناول هذه الفترة: “من الطريقة التي صنعت بواسطتها الإبرة إلى طريقة اكتشاف المدافع”.
في الفصول اللاحقة يخصص الكاتب فصلاً للحديث عن الفيلسوف إيمانويل كنت، أحد أوائل الفلاسفة الذين درسوا الفلسفة في الجامعات. ثم يناقش بعد ذلك الحقبة الرومانتيكية، فلسفة هيجل، كيركغارد، ماركس، نظرية داروين في النشوء والارتقاء، عالم النفس فرويد وصولاً إلى العصور الحديثة.
يكتشف القارئ بعد قراءة عدد من الفصول، أن ثمة قصة أخرى تتداخل مع قصة المعلم الفيلسوف والتلميذة صوفي، وربما يشكك في حقيقة وواقع شخصيات الرواية حين يحتار أي من القصتين تروي الأخرى؟ ثمة فتاة أخرى تدعى هيلدي تعيش في بلدة اسمها يشبه إلى حد ما البلدة التي تعيش فيها صوفي مع والدتها، هيلدي تعيش مع والدتها كذلك، ووالدها، تماماً مثل والد صوفي، يعمل مع بعثة الأمم المتحدة في لبنان. إلى أن يتضح للقارئ أن والد هيلدي هو الذي كتب قصة صوفي والمعلم كهدية لابنته في عيد ميلادها الخامس عشر.
الممتع في قراءة الفصول الأخيرة هو محاولة كل من ألبرتو المعلم وصوفي التلميذة الهروب من أملاءات الكاتب وسيطرته حين يدركان أن أقدارهما، ودخول بعض الشخصيات الخيالية الأخرى من روايات عالمية إلى عالمهما، ومن الأحداث التي يصارعانها، أنها جميعاً مجرد سطور كتبها والد هيلدي في مضمون روايته المهداة إلى أبنته. ويفاجأ القارئ أن الشخصيتان في الرواية، ألبرتو وصوفي يحاولان الهروب من سيطرة الكاتب: هل تخرج شخصيات الرواية عن طاعة وسيطرة كاتبها؟؟ سؤال مثير للجدل كذلك. كما يلاحظ الكاتب أن ثمة كاتب أصلي حقيقي (أينا حقيقيٌ؟؟) هو جوستين غاردر يكتب كاتباً آخر لرواية مهداة إلى ابنة الكاتب الآخر في الرواية!! عالم ممتع أليس كذلك؟ إنه “عالم صوفي”.