مميزات البنية السردية للقصة القصيرة بالمنيا المصرية

الجسرة الثقافية الالكترونية
ريهام حسني
ظهرت القصة القصيرة في روسيا وأمريكا في منتصف القرن التاسع عشر. ولقد دار – منذ ذلك الحين – الكثير من الجدل حول هذا الجنس الادبي الجديد، فمنهم من يضمه إلى جنس الرواية ولا يعترف باستقلاليته ومنهم من يرى أن مفهومه لم يتحدد بعد ولا يوجد قالب فني محدد له. في حين ذهب آخرون بعيدا باعتبار أن كل قصة قصيرة تمثل جنسا أدبيا في ذاتها.
ولا يُستغرب مثل هذا الجدل على جنس أدبى جديد، ظهر تلبية للإيقاع السريع الذي تميز به العصر الحديث، ولكنه في الوقت ذاته يعكس مشكله نقدية أو بالأحرى أزمة في التنظير الذي تناول القصة القصيرة.
وتختلف القصة المقتضبة عن غيرها من الأجناس الأدبية من حيث المادة والمعالجة الفنية، فمادتها عبارة عن الصورة التي تٌرسم بالكلمات ممتزجة بالأحداث التي تكوّن الفعل/الخبر.
ويتم تقديم هذه المادة بأسلوب يتسم بالاقتصاد والإيحاء، فالقصة القصيرة تركز على مشهد واحد من شريط الحياة متعدد المشاهد وتضعه تحت المجهر، فلا مجال للإسهاب والإطناب.
وتكون بها الشخصيات مختزلة، وكأنها خيوط تتضافر من أجل إكمال اللوحة وقد لا يفصح الكاتب عن أسمائها ويتماهى المكان في الصورة، كما يتماهى الزمان في الفعل/الخبر.
وترتكز القصة القصيرة على الرمز والإدهاش والمفارقة للكشف عن حقيقة غائبة.
الفرق البنيوي
يجدر بنا أن نميز هنا بين البنية السردية/النوعية للقصة القصيرة اي النسق التعبيري الذي يتم تقديم القصة القصيرة من خلاله، والبنية النصية/الفنية التي تعطي لكل نص خصوصيته وتختلف باختلاف الكتّاب وثقافتهم ومهارتهم.
فالبنية السردية هي الإطار الذي تُقدم فيه مادة القصة القصيرة باستخدام اللغة والأحداث والزمان والمكان والشخوص والراوي وهي بنية ثابتة لا تتغير باختلاف النصوص، أما البنية النصية فهي الطريقة التي يوظف بها الكاتب جزئيات السرد عمليا في إنتاج نصه الذي قد يلتزم بكل عناصر البنية السردية أو بعضها. اي أن البنية السردية هي النموذج المصطلح عليه والبنية النصية هي التطبيق الفعلي له.
ويؤدى الخلط بين البنيتين إلى تشوه مفهوم القصة القصيرة وتسرب بعض العناصر من البنية النصية وإلصاقها بالبنية السردية، الشيء الذي قد يؤدي إلى إخراج بعض النصوص الجيدة من جنس القصة القصيرة. فعلى سبيل المثال، ليس شرطا أن تكون القصة القصيرة قصيرة في الطول، فذلك يختلف من كاتب لأخر. اي أن ذلك العنصر من عناصر البنية النصية وليس البنية السردية.
وقد أدى التركيز على البنية النصية دون السردية للقصة القصيرة إلى أن ترسخ في الأذهان لأن اختصار القصة القصيرة، هو مكون من مكونات البنية السردية. وكذلك فإنه ليس من عناصر البنية السردية للقصة القصيرة أن تحتوي على لحظة تنوير، وللكاتب الحرية في ذلك حسب معالجته الفنية. وقد تكون القصة القصيرة ذات بناء درامي يغلّب الفعل على الصورة أو انطباعي ساكن أو تتخذ شكل البناء الأسطوري.
سمات القصة المقتضبة
لو تأملنا بعض القصص القصيرة، لبعض كتاب المنيا القادمين بقوة في المشهد القصصي المنياوي لوجدنا أقلاما مميزة، لا تكتفي بدرايتها بالخصوصيات السردية للقصة القصيرة، بل وتوظفها لإخراج بنية نصية محكمة مكتملة الأركان. وتعد قصة (أسطورة الكلاف) للقاص ناصر عاشور واحدة من القصص التي استغلت كل عناصر البنية السردية وأبدعت في توظيفها نصيا. حيث يوفق الكاتب في تشكيل مادتي القصة القصيرة بالصورة والخبر، فالصورة في هذه القصة تتكون من لقتطين، الأولى تصور زبيدة وهي هائجة الشعر، ممزقة الثوب، ملطخة الوجه بالدموع والطين والدم واقفة على مشارف البلدة والجبل من أمامها وأهل القرية من ورائها يطاردونها بالحجارة ومن تحتها الرمال والقمر من فوقها يبدد شيئا من الظلام ويضفي عليها بعضا من المهابة.
إذن إنها لوحة فنية بديعة ينسجها عاشور بخطوط وألوان الكلمات, ويبعث فيها الروح بالإخبار عن الحدث المتسبب في هذه اللوحة.
ويبدأ الحدث بأن يفسح الراوي الخارجي مكانا لصوت البطلة لنسمع السؤال الذي يتردد في ذهنها وهي في هذا الموقف “هت روحي فين يا زبيدة”. لقد أجاد عاشور استخدام التقنية والاستفادة منها كمحفز للنص.
ويلتقط الراوي خيط الكلام معلقا على الحدث منكرا عليها حق السؤال “لأن مطارديها ما كان لديهم حق السؤال و لا انتظار الإجابة”. وتتبدى هنا فكرة القهر والظلم الذي وقع على الجميع، زبيدة وأهل القرية، من سلطة أعلى لا نعرفها حتى الان يقول القاص “ما كان لديهم سؤال، ولا هم ذو مصلحة في مغادرتها ولا بقائها، هم فقط لديهم أمر حريصون على تنفيذه مهما كلفهم ..ويدافعون عن الشرف في بلدتهم”.
ولا تصدر إلا عن كاتب على دراية تامة بالبنية السردية للقصة القصيرة وفي الوقت ذاته غير خاضع لها بشكل كلي. فهذه القصة ليست بالمقتضبة إلى حد ما كما هو معروف عن قصر القصة. كما أجاد عاشور اللعب بمادة القصة القصيرة بطريقة غير تقليدية، فهو لم يكتف بالصورة الحسية بل زاوج بينها وبين الصورة الذهنية. ولم يقدم الصورة دفعة واحدة بل قسمها على لقطتين حتى يثير ذهن القارئ للربط بين أجزاء الصورة. كما نوع في الزمان والمكان بما يفيد النص ولا يضره، فتقنية الرجوع للخلف زمنيا وتقديم الحدث دراميا كما حدث في حينه زاد من وضوح الصورة.
وتمثل البنية النصية لهذه القصة، بنية رمزية إيحائية تنسحب على كل حاكم ظالم استعبد شعبه واستحل ماله وعرضه، ف”صابر الكلاف” ليس الوحيد في هذه القرية الذي حملت فيه أمه سفاحا من أحد الحكماء، بل هناك الكثيرون من أصحاب البشرة البيضاء. والنتيجة هي معاقبة الضعيف وطرده وتبجيل القوى والتهليل له، كما فعل شيخ المسجد الذي نجده في كل زمان، يأمر بأمر الحكيم لا بأمر الله. إن قصة الكلاف هي قصة نعيشها كل يوم، قصة الحاكم الظالم وشعبه الذي سكنه الخوف والجبن.
ولو انتقلنا إلى مبدع اخر من مبدعي المنيا، سنجد أن القصة القصيرة عند محمد البدراوي تتميز بالإيجاز والتكثيف الشديدين. ففي قصة (صرخة من الأعماق)، تتكامل عناصر البنية السردية عن طريق استخدام القاص للكلمات المختصرة ورسم صورة تتكرر كل مساء لشاب يصرخ من الأعماق وأناس يهرعون إلى بيته المتكسر النوافذ في انتظار العربة التي تأتي لتأخذه إلى المصحة النفسية.
وبلغة بسيطة غير معقدة، يتدخل الخبر ليجلي غموض الأشياء، فيعود بنا الراوي العليم إلى الوراء باستخدام الفعل الماضي، وخاصة فعل الكينونة والوحدات الخبرية الجانبية لنعرف أن هذا الشاب الذي تفوق ودخل كلية الإعلام قسم الصحافة على حساب الحي كله، تأمر عليه أساتذته ليرسب في السنة الرابعة ويضيع حقه في أن يصبح معيدا بكليته بعد أن صرح بآرائه وأفكاره التي لا تأتي على هواهم.
ويفصل القاص بين الصورة والخبر، حيث يبدأ برسم صورة الحدث عن ذلك الشاب الذي يصرخ ويكسر ويضاهيها بالصورة الذهنية التي تتكون عند جيرانه عندما يسمعون صراخه “عندما كان يصرخ نشعر أن تلك الصرخة كجنين ظل أيام وشهور يتكون داخل رحم ما، ثم أتت ساعة الولادة فتصرخ أمه فينطلق هو للحياة”. ثم يرجع القاص زمنيا ليخبرنا بخلفية الأحداث. ولا يكتفي القاص باستخدام الكلمات لرسم معالم لوحته، بل يلونها ببعض الألوان مثل الأزرق في إشارة إلى عربة الشرطة والأبيض المتسخ أو الأصفر في إشارة إلى عربة المصحة النفسية.
ويحدد القاص زمن القص منذ البداية “في المساء” وكذلك في كل المساءات القادمة في إشارة واضحة لتكرر المأساة سواء معه أو مع كل مظلوم على هذه الأرض، ثم يأتي “الفلاش باك” ليسرد مسببات هذه الحالة التي هو عليها حاليا. ويمثل البيت المتكسر النوافذ خلفية للأحداث. والاشخاص هنا مختزلة إلى حد كبير ويمثل الشاب الذي لا نعرف له اسما، الشخصية الرئيسية الوحيدة كما يمثل الجيران وأصحاب العربة الصفراء والزرقاء والأساتذة شخوصا ثانوية.
وتقرر البنية النصية لهذه القصة واقعا يعيشه المجتمع من كبت للحريات ومصادرة للاّراء وسلب للحقوق. مثل هذا الواقع الذي يدفع إما إلى العربة الزرقاء أو البيضاء أو الاثنتين معا.
وهكذا، فإن القصة القصيرة في المشهد الثقافي المنياوي قد أثبتت رسوخها ووضوحها في ذهن كتابها الذين لم يكتفوا باستيعاب البنية السردية للقصة القصيرة بشكل كامل، بل تجاوزوا ذلك إلى إبداع بنى نصية تتسم بالتفرد والتميز.
المصدر: ميدل ايست اونلاين