مسرح بلا أدوار

عباس بيضون

كانت هناك سوابق مسرحية أو شبه مسرحية لكنها لم تتطور. كان المسرح في جملة ما أتانا من الغرب. مارون النقاش أو أي اسم آخر بدأ به كما استعاره واقتبسه. كان المؤلف والمخرج وأحياناً الممثل قبل أن يولد المؤلف والمخرج والممثل ويضاف إليهم السينوغرافي وأحياناً الموسيقي. أياً كانت السوابق المحلية فالمسرح عندنا طارئ مجلوب. استقدمناه مثل كل شيء آنذاك، بما فيه تراثنا نفسه إذ استرددنا ألف ليلة وليلة والخطوطية العربية عن طريق الغرب. لكن ذلك لم يحل دون الازدهار. كانت للمسرح زهرته وقيامه في مصر والمغرب وتونس وحتى في لبنان وسوريا. مؤلفو المسرح تواتروا هنا وهناك. عاشور وميخائيل رومان ويوسف إدريس وسعد الدين وهبة وألفريد فرج وسعد الله ونوس وعصام محفوظ والطيب الصدقي والجبايلي والجعايبي وكثيرون سواهم. نهضة حقيقية لهذا الفن اليتيم الجديد وتجارب ونزعات واتجاهات. المسرح الخاص والمسرح الجماعي، المسرح العبثي والمسرح البريختي والمسرح التراثي والمسرح الشاعري. وُجد أمراء المسرح ووجدت بؤر مسرحية ووجدت مدارس وأساليب وبالطبع فرق ومجالات وجمهور. دخل المسرح في تراثنا وفي يومياتنا وفي نهضتنا أو ما تراءى انه كذلك. وفي وقت قصير صار لنا مسرح وصار عندنا رواد ومبتكرون وتجارب تذكر.
لا أريد أن ادخل في تحليل سوسيولوجي لهذه الظاهرة، قيامها وصعودها وكسوفها الحالي، لكن من الملاحظ أنها توافقت مع المشروع القومي. سبقته بالتأكيد بعقود لكنها اتسعت ونمت فيه. قد لا نجد بسهولة الصلة بين الفرافير العبثية أو اللامعقولة والمشروع القومي، قد لا نجد فوراً هذه الصلة بين مسرح الحكواتي وبين هذا المشروع. وإذا كان سهلاً أن نردّ مسرح سعد الله ونوس الأول إلى هذا المشروع إلا أن مسرحه الثاني قام على أنقاضه وكان أشبه بمراجعة له أو مرثية. لنقل إن المشروع نفسه كان مسرحياً. لقد كان مشهدياً إلى حد بعيد. وجد في الاحتشادات الجماهيرية وفي الخطب وفي المعارك شبه الوهمية وفي الدعوة بكل الأساليب وفي الشعور بالحشد والوحدة على مدى الرقعة العربية. كان المسرح نوعاً من الإحياء، نوعاً من الاحتفال بعصر بازغ، نوعاً من اللعبة الجماهيرية، نوعاً من فضاء لإعادة الرواية ولتأسيسها وللعبها. كان المسرح في تلك الآونة اجتماعاً للنخبة ومجالاً لترى فيه النخبة نفسها كتلة وحشداً ولتتأمل أدواراً قسمت لها. شارك المسرح من هذه الناحية في عصر يمكننا ان نسميه مجازاً مسرحياً. كانت الأمة تلتقي عند الترانزيستور والحشود تشعر بوجودها التاريخي بل كان التاريخ نفسه يُصنع في الاحتشادات ويبدو وكأنه يُصنع أمام أعين الجميع. هل كان المسرح هو فن هذه المرحلة. كان بالتأكيد فن نخبه تظن أنها زمانها وأنها ساعتها وأنها أمام دورها التاريخي وأمام دعوتها التاريخية.
قد يقال إن جزءاً من هذه النخبة كان في السجون لكنه حتى في السجن كان يستشعر دوره، ثم إن المشروع القومي الذي يتكوّن في الاحتشادات كان يكون أيضاً نخبه، شبابه. وبالتأكيد بدا المسرح، ولو لم يكن ملتزماً ولو كان في أحيان كثيرة ساخراً وناقداً هو مكان اجتماع ولعبة كلامية لها. هل كان فشل المشروع القومي بفاصل مشهدي أيضاً هو حرب 1967 هو بداية تراجع المسرح. هل كان المؤلف المسرحي وهو يتراجع ويترك المسرح للتهريج الشعبي يفعل ذلك وقد فقد إيمانه بالحشد والجمهور واللعبة الجامعة. هل انكسفت مع انحطاط المشروع القومي كل مشهديته، لكننا هنا لا نزال في التحليل. لقد أنتج الكسوف فنه بل وفنونه: إلغناء الذي بدا مرئية ملائمة لعصر وسخرية من أحلامنا فيه، ثم هناك الرواية التي اهتزت تحت النكسة وتوزعت إلى روايات وأساليب ثم إن الفرق بيننا وبين انتكاس المشروع القومي، الذي تراكمت عليه انتكاسات وانتكاسات، طويل زمنياً بحيث استحال الكسوف هو المرحلة ولم يعد المشروع القومي نفسه سوى أضغاث وبقايا.
فشل المشروع القومي والتحريري وأطيح بالدول والجيوش ولم تصمد الحرب الشعبية وكل ذلك أورثنا خيبات وهزائم. في وسعنا بعد ذلك أن نرى في اختفاء المؤلف المسرحي نتيجة لسقوط الدولة والمدينة والمشروع الجماعي. لم يكن المسرح مجرد أدب، كان فرجة وبالتأكيد فإن صلته بالدولة والمدينة ليست افتراضاً، لكن ثمة مسرحاً لما بعد الدولة وبعد المدينة وبعد المشروع الجماعي. إذا كان تأخر فإننا لا نيأس من ظهوره. ما نحن فيه يحتاج أيضاً إلى مسرح ولعبة مشهدية، كما أن المسرح يحتاج إلى نخبة جديدة، فالواضح أن الكسوف طال أكثر مما يجب ولا بد أن هناك ضوءاً في نهاية النفق.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى