شبلول .. من تضاريس الألم إلى رسم عوالم شفافة

محمد محمود الفخراني
إن الاحتفاء بشاعر بحجم أحمد فضل شبلول هو احتفاء بالأصالة والدأب، وهو أيضَا احتفاء بالنموذج الشعري، فهو “لم يكن مجرد واحد من أصوات الإسكندرية الشعرية المقتحمة” على حد قول الشاعر الكبير فاروق شوشة، وإنما كان واحدًا من أبرز الدارسين والباحثين.
وقد حاولت أن أتقصى الحالة الشعرية المميزة لأحمد فضل شبلول في قصيدته “جراي”، وهي من أجمل قصائد ديوانه “تغريد الطائر الآلي”، والجراي هي الوحدة الإشعاعية الحديثة لقياس الجرعة الإشعاعية:
كانت نهرًا من عَسَلٍ وضياء
ينبوعا من رِقَّة ..
وصفاء
تُنجِبُ من دون مَشَقَّة
وتغنِّي للبحرِ وللنورَس
للأطفالِ المحرومينَ،
وللأطفال السعداء
… وأنا …
يختَمِرُ الإشعاعُ بكفي
تسقطُ منِّي حنجرتي
تتليَّف أفكاري،
أَورِدَتي
ويهاجرُ أنفي
تَتَأَيَّنُ تفَّاحةُ حبِّي
تَتَكَلَّسُ أزهارُ الأرحام
إن اللغة الشعرية في هذه الدفقة تتخطى حاجز التوصيل إلى الكشف عن تضاريس النفس دون أن يتعمد الشاعر اللفظية، أي دون أن يتعمد بلاغة إيقاعية تحيل العالم إلى جسد مصنوع من ألفاظ صائتة لا تصل حدا بعيدا من الكثافة، ولكنها تفضي إلى جمالية شفافة، وهذه خصيصة الشاعرية الحقة التي تنقلنا من اللغة إلى الكشف، لأن الكاتب يخلع من ذاته على الأشياء فيجمع بين التصوير والموقف الفانتازي، ولذا يصبح الوقوف أمام الاستعارات وحدها ظلما للطرائق الشعرية، فهى لغة تُحس وتُسمع وتُشم مع عميلة التلقي.
يقول شبلول في موقع آخر من قصيدة “جراي”:
كلُّ جُزيء..
يخترقُ جدار البشرية
ويحوِّلها لخلية
سرطانية
فكفاكُم تشعيعًا للأمخاخِ ..
وللأعضاءِ ..
كفاكُم تفتيتًا لمشاعرنا ..
وكفاكُم تفليقًا للذرَّات
فأنا أمشي أحملُ نعشي ..
وخلايا الأموات.
إن الرصيد المعرفي الذي يمتلكه شبلول أتاح له أن يكون ناقدا لعصره، وجعله يتابع آفاق المستقبل، وربما أضفت على شاعريته حداثة قد يعتقدها البعض مروقا أو جنوحا أو خروجا، ولكني أراها جنوحا إلى الحدس المعرفي، وقد أتمثلها في عناد هيرمان بروخ وهو يقرر “أن المعرفية هي الأخلاقية الجديدة، وإن ماء القصيدة لن يذهب هدرا في محيط دموع الشاعر مهما ثقلت عليه ثقالة التاريخ”.
والملاحظ أن شبلول قد اقترب من الذرى، وأن الشعر لا يستعصي عليه، وأن القصيدة لا تتأبى عليه، وأنها تطيعه كلما حاول استدراجه لها، لأنه – أي الشاعر – لا يثقل نفسه بالإيقاعات التي لم تعد أجيال القصيدة العرربية تستسيغه.
إن شبلول بثقافته وسعيه في البحث عن عوالم ساكنة في تضاريس الألم يجنح إلى رسم العوالم الشفافة، ومن تلك الرؤية أمكنه أن يسبر أغوار منجزه الشعري، ويحاول سبر أغواره ورصد مشاعر الإنسان السرية وانفعالاته، ولا يكتفي الشاعر بإعطاء الإنسان تلك الشحنة الشعرية بما يمنحها لغة للحوار والعشق والحزن والحنين، بل يسعى ليؤنسن مكونات الطبيعة بمهارة تحدد تلك المشاركة بين تلك المشاعر السرية ومكونات الطبيعة.
فالبحر يبعث بألوانه على قيم العاشق المتيم، والموجات في تتابعها الأبدي وجنونها تحول العشق إلى أغنية خالدة جارحة وشاعرية في آن، والشاعر المدرك بوعي لمأزقه الوجودي يلجأ إلى القمر ليصنع من أضوائه زوارق للحالمين.
البحر وأمواجه وجنونه هي كون الشاعر وعالمه الذي لا يشاركه فيه أحد، يقول:
البحرُ
ذلك البريقُ في دمي
تثاءبَ الآنَ على سواحلِ الزمان
ولم أكنْ هناك وقتَها
كنتُ في الطريقِ نحو لعبةِ الأمان
تركتُه وراء ظهري باكيا
وكلُّ موجةٍ تشدُّني لها
(ميدل ايست اونلاين)