هدى حاجّي: التجربة الشكلية للهايكو ستقود الى إعادة صياغة نظرة الإنسان للوجود

حميد عقبي
تجري الإستعدادت لإقامة ندوة الهايكو الثانية بالمغرب حول “الهايكو العربي وشعريات هايكو العالم” وسيكون من ضيوفها الشاعر الياباني بانيا ناتسويشي وعدد من شعراء وشاعرات الهايكو في العالم العربي.
نلتقي بهذه المناسبة بالشاعرة التونسية هدى حاجّي التي ستشارك هذه الفعالية المهمة، لنتوقف ونناقش قضايا مهمة تمس فن شعر الهايكو الذي يفرض حضوره بقوه في الساحة الأدبية العربية.
ضيفتنا ترى أن الهايكو موجة قوية لا نستطيع تأجيلها أو منعها من التدفّق، وستطرح رأيها في حالة المشهد الشعري التونسي، وتتحدث عن تجربتها الشعرية التي تكللت بصدور ديوانها “بين ضفتين”. لنرحب بضيفتنا ونستمع إليها.
• هل المشهد الشعري التونسي بخير اليوم؟ هل له مسارات جديدة واضحة؟
ـ المشهد الشعري التونسي هو ذاته المشهد الشعري العربي لا شيء يختلف غير المكان، مثله مثل الثقافة العربية برمتها مريض، لا يمكن ان يختلف مادامت الثقافة من آخر اهتمامات السلطة، ما دام ثمة شعراء السلطة وشعراء الهامش، شعراء الامتيازات والاعلام وشعراء الظلّ، الشعر الحقيقي لا يتربى في فلك السلطة والطاعة، إنه صوت التمرد والرفض لا يخضع لاي سلطان إنه سليل الحرية.
• كان الشعر يتقاطع ويلتقي مع المسرح وبقية الفنون التي تقترب منه لتعانقه. هل هي تقنية الصورة والديجتال جعلت هذه الفنون اليوم تتجاهل الشعر أم حالة الشعر ضعفت؟
ـ مازال الشعر رغم هذا القول يتقاطع مع عديد الفنون ويتماهى معها وان بدا غائبا عن المشهد في الظاهر، نلاحظ انّ الشعر يرافق عديد الفنون في احتفالية مستمرة تتجلّى أحيانا في لوحات جدارية كتلك التي كتبت قصيدة هايكو على جدار مدينة مغربية وأيضا احتفاء فن النحت بالشعر ورموزه، تجسّد هذا في منحوتة ضفدع باشو معلّم الشعر الياباني في منتزه كفايت بمدينة وجدة المغربية كذلك نجد تساوقا بين الشعر وفن الخط من خلال نماذج اللوحات التي أعدها رسام الكاليغرافيا المغربي اليزيد خرباش والتي اشتغلت على قصائد الهايكيست سامح درويش، ولا يخفى على رواد الفضاء الاجتماعي الافتراضي الصور التي يرفقها الشعراء لقصائدهم القصيرة محاولين ايجاد تناغم بين الصورة والقصيدة.
• توجهتِ إلى حضن قصيد الهايكو ما الذي يغريكِ في هذا الفن؟
ـ تجربتي في كتابة الهايكو بدأت بفضول معرفي ومحاولة كتابته اتسمت في بدايتها بصعوبة خاصة حتّى أنّ هايكو واحد من خمسة او ست قصائد ارسلها للنشر يقبل مما خلق لدي نوعا من الاصرار على النجاح في كتابته وصار الأمر اقرب الى التحدي والرهان مما دفعني الي القراءة الجادة والبحث المتواصل للتعرف على الهايكو وتقنياته وقواعده وضوابط كتابته ومحظوراتها وفانخرطت اكثر في التجريب والانصات لما حولي ملتزمة بالفصل صراحة أو ضمنيا محاولة الابتعاد كليا عن الافتعال.
كنت قبل تجربتي مع كتابة الهايكو اكتب قصيدة النثر لكن منذ كتبت الهايكو استغرقت فيه كليا بلا عودة الي قصيدة النثر كنهر يندفع بقوة حافرا مجراه بوضوح، كغصن كرز يزهر بلا استئذان، لحظة الكتابة تأتي بلا موعد، لا تطرق باب القلب بل تخلعه وتدخل عنوة مع التفاصيل الصغيرة، مع غصن شجرة التفاح الذي يسلّم عليّ من نافذة مطبخي، مع رفيف جناح الطائر الذي يبتني عشه بعمود عتبة بيتي، مع النحلات الملفوفات في أغصان شجرة البرتقال المزهرة، مع الريح، مع المطر ينقر سقف غرفتي، مع الغبار يمتطي شعاع الشمس، قصيدة الهايكو تفعل فيّٓ ما تفعله زهور الكرز بشجرة الساكورا أوائل الربيع.
• كيف تنظرين لزخم وكثرة من يقولون إنهم شعراء هايكو؟
ـ انظر الي ظاهرة كثرة مجربي كتابة الهايكو نظرة أمل وتفاؤل، او لم يكن الهايكو باليابان في فترة من فتراته فن القول الجماعي حيث كان ينشد جماعيا، اشعر ان هذه التجربة الشكلية في ظاهرها ستقود في المدى البعيد الى اعادة صياغة نظرة الانسان للوجود واعادة تشكيل رؤاه بطريقة اكثر قربا من جوهره الانساني، اكثر نحتا في ماسته النبيلة التي تراكمت عليها شوائب الانانية والمصلحية وحب الذات، أكثر وعيا بموقعه في الكون لإعادة ترتيب علاقته مع الموجودات الاخرى بشكل يخلصه من نوازع مركزيته.
ماذا يضير العالم ان يصبح الناس شعراء حتى وان جربوا ولم يفلحوا او ليس جميلا ان لهم شرف المحاولة، فالشعر كما يقول الروائي الجزائري واسيني الاعرج: “ما يزال رهانا عظيما ضد الافناء، بل ان اندثاره هو اعلان مسبق لموت الحياة، الشعر منذ هوميروس وإليغري دانتي والمتنبي والمعري ووالت وايتمان والجواهري وسعدي يوسف ودرويش وغيرهم ما يزال ذلك الطير المضاد للموت، الفينيق الذي يقوم من رماده في اللحظات الاقل انتظارا والاكثر يأسا ليذكرنا بأن الحياة مستمرة.”
• وجود عشرات المجموعات الفيسبوكية تنشر مئات قصائد هايكو كل يوم.. ألا ترين وجود إستسهال يصل إلى الإستهتار بهذا الفن؟ هل ستفرز هذه الفوضى نتائج إيجابية؟
ـ الهايكو هو فن السهل الممتنع ووجود عشرات المجموعات الفيسبوكية تنشر مئات القصائد كل يوم هو حقل تجريب كبير وورشات كتابة متنوعة قد تثمر شعراء حقيقين وقصائد مدهشة وجديدة وقد لا تفرز غير محاولات استنساخ مشوهة للتجربة اليابانية، شروط النجاح رهين الجدية والحوار المعرفي الجاد والسعي الي تطوير التجربة والمثاقفة مع الشعريات الاخرى في نهج يعتمد النقد الذاتي ووضع الشاعر نفسه موضع تلميذ يتعلم نائيا بنفسه عن النرجسية والغرور.
• هل من أسماء مهمة في فن شعر الهايكو على مستوى الوطن العربي يمكن أن تشير إليها كنماذج؟
أسماء كثيرة قرات لها، اسماء كثيرة اتابع تجربتها والاحظ تطورها من يوم الي يوم، اسماء عديدة اتفاعل معها بمتعة واستفادة كل يوم اسماء تتلمذت عليها كبكاي كطباش وسامح درويش وعبد القادر الجموسي وسامر زكريا.
• ما هي المؤثرات لتي تلعب دورا مهما في كينونة الكتابة أو الشاعرة التونسية؟
ـ اعتقد ان ما يلعب دورا مهما في كينونتي هو وعيي الحاد باللحظة التاريخية المتهافتة، هذا الوعي الذي يجعلني اعتبر الكتابة لحظة يقظة مبصرة ترى بالقلب ما لا يرى، ترفض الموت والاتباع والاجترار، تبصر المستقبل حتى من شرنقة خيوط عنكبوت.
• هناك من يرى أننا في عصر السرد أي الرواية والقصة القصيرة لكن المؤسسات الرسمية الثقافية العربية تدعم الشعر وتعطيه الحظوة. كيف ترين المشهد بالضبط وخصوصا في تونس وما هي رؤيتك لهذه الحالة؟
ـ لا نستطيع ان نجزم بما يروجه الاعلام المنتصر للسرد، فهو حينا يدعي أننا في عصر السرد لان العولمة قلّصت مساحات الشعر، واعلنت نهايته واحيانا يدعي ان الشعر يلقى الحظوة لدى المؤسسات الرسمية، في الحقيقة الشعر الذي يحتفى به هو ذاك الذي يدور في فلك السلطان، كتبته من “القلمة” والعبارة للشاعر التونسي أولاد أحمد الشاعر المهمش طوال عقود الذي انصف نسبيا في وقت متأخر، ومتى كانت المؤسسات الرسمية راعية للشعر الحقيقي.
• قيل الكثير عن قصيدة الهايكو عبر بعض الحوارات مع أصدقاء في عدة مناسبات، نود أن نستمع إليكِ بودنا أن نسمع في هذا اللقاء تعريفا غير معقد كي نلمس روح الهايكو؟
ـ قصيدة الهايكو هي لحظة شعورية مرهفة وحادة تشبه انفلات ماء من باطن صخرة، هي نوع من الخلق والولادة الطبيعية السلسة باحساس عميق مفعم بالغبطة او التأمل او الخوف او المرح بلغة شفافة كالماء مضيئة كشعاع بلا شوائب مجاز وكنايات واستعارات، اقصى ما يمكن تحميله لها هي تورية خفيفة كلمعة عفوية، انها دهشة الابتكار بعيدا عن رثاثة اللغة المجترة التي تسترسخ المنوال وتكرّسه.
• يثار الجدل حول قصيدة الهايكو العربية ما ملامحها اليوم، ما الذي يميزها، وهل توجد صعوبات كي تخرج من جلباب الهايكو الياباني ليكون لها بهائها الخاص؟
ـ قصيدة الهايكو اليوم في مواجهة رهانين اليوم الاول ان تضع نفسها في مدار الهايكو وتكتبه بشروطه وقواعده باستحقاق وتنجح في هذا الرهان، الرهان الثاني هو ان تضع بصمتها الخاصة ولمستها المميزة المطبوعة بمحيطها وثقافتها ولن تنجح في هذا بمعزل عن يقظة ثقافية شاملة تعيد العقل العربي الي مدار الابداع والانتاج مخلّصة اياه من الكمون والاجترار وإعادة انتاج القديم المستهلك، في النهاية كتابة الشعر هي تأمل للكون بعين متدفقة لا عين الذاكرة.
* هناك من يرفض الهايكو تماما ويراه نسخا شكليا مشوها وضعف المضمون والفكرة ما ردكم؟ وهل يشترط ان يكون الشخص شاعرا ليكتب الهايكو؟
ـ الهايكو في نظري موجة قادمة لامحالة، لا نستطيع تأجيلها او منعها من التدفّق، ستبللنا شئنا ام ابينا تماما كذلك السيل الذي يختلط بنهرنا ليجري معه في مجرى الشعر الحديث وليبحث معه عن شكله ومعناه ورؤاه لا ندري حقيقة أي صيغة سينتهي اليها ولا اي صورة كل ما انا متأكدة منه انه لن يستقرّ في مستنقعات الشعر الآسنة، سيكون في اي صيغة ينتهي اليها ماءً حارا دافقا يلمع تحت الشمس ويرقص تحت نقرات المطر، لا يشترط ان يكون الشخص شاعرا ليكتب هايكو، يشترط فقط ان يكون قناصا ماهرا عدته في الصيد حواسه اليقظة وقلبه الذي يرى.
• نود في هذا اللقاء أن تقديم نبذة مختصرة عن تجربتكِ الشعرية الخاصة مع قصيدة الهايكو مع نماذج لكِ ترين أنها تحمل روح الهايكو؟
ـ عن تجربتي الشعرية في الهايكو أورد ما كتبه الاستاذ نزار السرطاوي في تقديم ديواني بين ضفتين: “ان هدى تلتزم بالكثير من الشكليات الاولية التي تجعلها تقترب من الروح الاصلية للهايكو / فهي لا تضع عناوين لنصوصها ولا تستجلب القوافي ولا تستعمل علامات الترقيم، فالنقطة والفاصلة وعلامتا الاستفهام والتعجب وسواهما كذلك فإنها تنأى بنفسها عن تحويل نصوصها الى حكم وأقوال مأثورة كما أنها ليست مولعة بالاستعارات المباشرة فهي كما نلاحظ تستخدم لغة عادية، لغة يكمن تأثيرها في الفكرة التي تنطوي عليها لا في بلاغتها اللفظية، وبالاضافة الى ذلك فهي مقتصدة في كلماتها فلا نجد في نصوصها حشوا وهي تتحاشى الغموض وتبتعد عن المبالغة في استعمال النعوت وتتفادى الضمائر باستثناء ضمير المتكلم وهذه في معظمها جوانب شكلية لكنها بمثابة قواعد ربما يغفل عنها الكثيرون.
• بعض نماذج من الهايكو التي كتبتها:
ـ في المتحف
غزالة محنّطة
ما زالت تعدو
ــ ساعة الغروب
تكلّمني الشجرة
بلغة الطير
ــ منتصف يناير
شجرة تفاح عارية
في البرد القارص
ــ على نافذتي
تنقر الشحرورة حبّات كرز
ضيفتي لا تراني
ــ بعصاه
يتحسس العالم
بقلبه يراه
ــ موسم جني الزيتون
آلاف العيون السود
أرمقها ولا تراني
ــ قمر نوفمبر
شجرة البرتقال مضاءة
بحبّاتها
ـــ زهرات كرز
أشياء كثيرة تتلاشى
ماء بين الأصابع
ــ زهرة الهايكو
لا تحتاج التراب والماء
بريق دمعة يبرعمها
ــ بين ضفتين
تعبر الايائل
النهر لا يعبر
(ميدل ايست اونلاين)